[علم السياق القرآني [4] (منزلة السياق من قرائن الترجيح)]
ـ[محمد الربيعة]ــــــــ[10 Feb 2007, 11:49 ص]ـ
منزلة السياق من قرائن الترجيح.
السياق ثابت في كل آية من كتاب الله تعالى، وهو أصلٌ في بيان معناها؛ لأنه لا يتعارض مع أي قرينة من القرائن، ولا يجوز الخروج بالآية عما دل عليه لفظها وسياقها.
ويقرر ذلك صاحب قواعد الترجيح في قاعدة مهمة فيقول":كل تفسير ليس مأخوذاً من دلالة ألفاظ الآية وسياقها فهو رد على قائله" ([1]).
وعليه فيكون السياق أصلاً مطرداً متفقاً مع جميع القرائن والأدلة في الآية، وقد تقرر هذا لدي واطرد في جميع تفسير سورة البقرة من خلال السياق وكفا بها شاهداً، ولم يمر عليّ مثال واحد في ترجيح معنى مخالف للسياق، وإنما يكون السياق مطردا مع القرائن الأخرى.
ويتقرر من هذا بأن السياق يأتي في المرتبة الأولى من حيث الاعتبار في معنى الآية، ويكون القول الذي يتوافق مع سياق الآية هو القول الصحيح المعتمد.
وقد قرر ذلك الزركشي بقوله: " ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له، وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز" ([2]).
ويقرر ذلك صاحب قواعد الترجيح فيقول: "القول الذي تؤيده قرائن السياق مرجح على ما خالفه" ([3]).
ولكن هنا مسألة مهمة يجب اعتبارها وهي أن معرفة السياق مبنية على الاجتهاد وغلبة الظن، وعليه فيكون تحديد السياق أمراً ظنياً لا قطعياً، ولهذا تجد الاختلاف في تحديد السياق في الآية الواحدة ([4]).
مسألة مهمة: تنازع دلالة السياق مع غيرها في معنى الآية.
قد يرد ما يدل ظاهراَ على تعارض بعض الأدلة مع السياق، لكن التأمل الدقيق في التوفيق بينهما يؤدي إلى تبين الرابط أو المناسبة.
ومن ذلك:
أولاً: تعارض دلالة السياق مع الحديث أو مع تفاسير جمهور السلف.
ومثل لذلك قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف 10]، فقد ذكر ابن جرير الخلاف في الآية، وأن فيها قولين:
القول الأول: أنه موسى بن عمران عليه السلام، على مثله، يعني على مثل القرآن، قالوا: ومثل القرآن الذي شهد عليه موسى بالتصديق التوراة.
القول الثاني: أنه عنى به عبد الله بن سلام، قالوا: ومعنى الكلام وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل هذا القرآن بالتصديق. قالوا: ومثل القرآن التوراة، وهو الوارد عن جمهور السلف.
وقد رجح الطبري القول الأول لدلالة السياق ثم رجع إلى القول الثاني لكونه قول أكثر أهل التأويل من السلف. فقال":والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل؛ لأن الآية في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش، واحتجاجاً عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك عني به عبد الله بن سلام، وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل" ([5]).
وبالتأمل نرى أنه لا تعارض بين القولين؛ لأن القول الثاني داخل في القول الأول؛ إذ هو استشهاد بالآية عليه، ولكن القول الأول هو الأصل في الآية ولا يمكن إغفاله لوجوه:
أولاً: أنه سياق السورة كلها والآية في خطاب المشركين، كما ذكر ابن جرير.
قال ابن جرير في تأويل الآية السابقة لهذه الآية: "الخطاب من مبتدأ هذه السورة إلى هذه الآية، والخبر خرج من الله عزّ وجلّ خطاباً للمشركين وخبرا عنهم، وتوبيخا لهم، واحتجاجا من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عليهم" ([6]). فإذا كانت السورة كلها في المشركين، فما الذي يجعلنا نخص هذه الآية ونخرجها عن سياقها.
ثانياً: أن الآية نازلة في مكة، وعبد الله بن سلام لم يسلم إلا بعد الهجرة، فيكون تضمن الآية له على وجه العموم. ويؤكد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن مسروق قال: (والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، ما أنزلت إلا بمكة، وما أسلم عبد الله إلا بالمدينة، ولكنها خصومة خاصم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بها قومه) ([7]).
وعلى هذا فلا يكون تفسير السلف مخالفاً للسياق، ولعل ما ورد عن السلف في تفسير الآية من باب دخوله في جنس الشاهد أو أن النبي صلى الله عليه وسلم استشهد بالآية عليه، وذكرها فيه، وهذا كثير في تفاسير السلف.
¥