[هكذا المجاهدون ... لا يموتون إلا واقفين!!!]
ـ[مروان الظفيري]ــــــــ[14 Mar 2007, 06:15 م]ـ
هكذا المجاهدون ...
لا يموتون إلا واقفين!!!
الأستاذ الشاعر عبد الله الطنطاويّ:
كيف أبدأ؟
لست أدري ..
وهل بإمكان واحد فقير قليل مثلي، أن يمتلك أعصابه، أن يشدّ على قلمه، أن يوقف تسارع دقات قلبه، أن يمنع دموع عيونه، وقد تفجرت ذاته إلى عيون .. إلى ينابيع، تذرف ما تمتح من خزين الدموع، على شقيق الروح، رفيق الدرب، صديق العمر، الشاب والكهل والشيخ الذي أمضيت معه خمسين عاماً .. أجل .. أمضينا معاً خمسين عاماً حافلة بالشهد .. حتى المرارات، مرارات كالصاب والعلقم، كنا نلعقها معاً، فتذوب في حلاقيمنا عسلاً بشهده، لا نريده عسلاً مصفى .. فصفحة الحياة .. حياتينا، كانت كقرص الشهد، ولا نبالي بلسع النحل، ولا نأبه بالأشواك تدمي أقدامنا، ولا بالحراب توجَّه إلى صدورنا.
ما كان يمضي يوم دون أن نلتقي، أو يهتف أحدنا للآخر، وأكثر من مرة في اليوم الواحد.
أولادي يعرفونه عمّاً لهم، فعمّو الحسناوي سأل عنك .. عمو الحسناوي خبّرك .. جاءك بهذا الكتاب .. بهذه الأوراق .. زوجتانا أختان، وأولادنا إخوة وأولاد عم .. نتزاور أكثر من تزاور الأقرباء .. نذهب إلى الأسواق معاً، نشتري معاً من صنف واحد .. نشتري خروفاً ونقسمه بيننا .. نشتري دجاجاً .. فولاً .. خضاراً، فواكه .. خبزاً .. كل شيء ..
نسافر معاً .. نحاضر معاً .. نشارك –ما استطعنا- في المؤتمرات والندوات معاً .. وعندما لوحقنا كنا ننام معاً عند من يثق أحدنا به .. نمنا على الأرض، على البلاط، على الحصير .. ونحن نحتسي أكؤس السعادة مترعة هنيّة ..
أخوّة خمسين عاماً، أواريها الآن في التراب، وأغادرها لأنام على سريري؟
صداقة خمسين عاماً، أختصرها بكلمات؟
لا والله .. ليس لي قدرة على هذا ..
فعن ماذا أتحدث؟
هل أقول: إنه خرج من الدنيا كما دخلها، لم ينل منها إلا ما يسدّ الرمق؟ إلا ما يضمن الحدود الدنيا من العيش الكريم؟
هل أتحدث عن الحسناوي الشاعر؟ والحسناوي الناثر؟
هل أتحدث عنه سياسياً ورجل إعلام وتخطيط، أو أتحدث عنه أديباً أو مفكراً، أو محاضراً، أو مناقشاً يراعي أدب الاختلاف في الرأي؟
هل أتحدث عن لينه، وتواضعه، وخفض جناحه لأهله وإخوانه، وتناسيه ما يجب أن يكون، فلا يهمه أن يكون (مواطناً) من الدرجة الثانية، في سائر أحواله، إلا حالاً واحداً: أن تُمسَّ كرامته، أو يُمسَّ إسلامه .. إن أردته جندياً كان، وإن أردته قائداً تحمّل المسؤولية بجدارة، يعمل ويعمل ويعمل، ولا يكل ولا يمل ..
هل أتحدث عن اعتقاله، عن اضطهاده، عن اغترابه، عن القهر الذي لقيه .. ومع ذلك .. لم يهادن، ولم يساوم، وبقي شامخاً في وجه الأعاصير، عاش واقفاً، ومات واقفاً، لم يضعف .. لم تضعف روحه، ولم تضعف عزيمته، برغم الهزال الذي ألمَّ بجسمه الناحل، بعد المرض العضال الذي أعيا مهرة الأطباء، طوال ثلاث سنين، بلا شكوى، وإذا شكا، فلخاصة إخوانه، وبهمس وحياء، وفي شكواه رضا بقضاء الله وقدره، وتسليم مطلق لما يريده سبحانه.
كان وكنت وكنا نرى أن الطغاة لا يناسبهم إلا تكسير رؤوسهم، ولا تجدي معهم مجاراة ولا مداراة، ولا سياسة اللين .. ما تنازل عن اقتناعه هذا، في أحواله كلها.
فيه أناة وحلم وسلاسة في التعامل، فإذا ساءه أمر، رفع عقيرته: لا إله إلا الله، يرددها أكثر من مرة، فتعرف أنه مستاء، وغير راضٍ عما يرى أو يسمع.
أعداؤه وخصومه هم أعداء دعوته، ووطنه، وشعبه، في الداخل والخارج .. يتابع أخبارهم، وتحركاتهم، ويتصدّى لهم بقلمه السيّال، يفند مواقفهم، وأقوالهم، ومزاعمهم، بقوة يستغربها من يرى نحول جسمه، وضعف ساعديه .. مصداقاً لقول الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور
وكذلك هو إذا غضب وثار.
هل أتحدث عن متابعته لما يجري على الساحات الداخلية، والعربية، والإسلامية، والدولية، والمبادرة إلى معالجة ما يستطيع معالجته من تلك القضايا والهموم؟
هل أستطيع أن أذكر ما نظم وكتب حول قضايا الأحبة في فلسطين، والعراق، ولبنان، وأفغانستان، وسواها من بلاد العروبة والإسلام؟ إنه كمٌّ كثير، ويحتاج كلٌّ من تلك القضايا في شعره ونثره إلى محاضرات.
¥