تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

المصالحة التاريخية التي أنجزها النبي-صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة بعد الهجرة بين المسلمين فيما بينهم وبين المسلمين وغيرهم من خلال كتابة الوثيقة (الدستور) , ومن خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار التي أشاد الله سبحانه وتعالى بها وبأطرافها, فقال تعالى: "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الحشر:9]. وقال أيضا: "وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [التوبة:100].

ومنها هدنة الصلح التي وقع النبي-صلى الله عليه وسلم- مع كفار قريش في الحديبية رغم الشروط القاسية والتي أشاد بها الخطاب القرآني واعتبرها فتحا مبينا حيث أنزل فيها قوله تعالى: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا" [الفتح:1].

ومنها العفو العام الذي أصدره النبي –صلى الله عليه وسلم- في حق قريش يوم فتح مكة الذي أشاد به الخطاب القرآني, فقال عز وجل: "إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا" [النصر: كلها].

الأبعاد المقاصدية لخطاب المصالحة في القرآن الكريم:

قبل أن نتكلم عن الأبعاد المقاصدية لخطاب المصالحة في القرآن الكريم ينبغي طرح التساؤل الآتي: ما هو سر اهتمام الخطاب القرآني بالدعوة إلى المصالحة؟

والجواب يأتي سريعا: هو أن الخطاب القرآني اهتم بالدعوة إلى المصالحة من أجل تحقيق أهداف وأبعاد مقاصدية وحضارية كبرى تتمثل فيما يلي:

1. البعد الديني:

ويتمثل في حفظ الدين والتمكين له, فإن الدين إنما يتمكن وينتشر وتقام أحكامه بين الناس في الأجواء السلمية, أجواء الصلح, وإنما تهتز مكانته وينحسر مده وسلطانه وتضيع أحكامه في أجواء الفتن والقلاقل, ويبين النبي –صلى الله عليه وسلم- للمسلمين هذه الحقيقة, فيقول:" ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟! , قالوا: بلى يا رسول الله, فقال: إصلاح ذات البين, فإن فساد ذات البين هي الحالقة, لا أقول تحلق الشعر وإنما تحلق الدين" (3).

2. البعد الاجتماعي:

ويتمثل في حفظ النسل والحفاظ على كيان المجتمع وبناء علاقات ودية أساسها الأخوة والتعاون والتراحم مما يجعل جهد الناس يتوجه إلى البناء والإعمار وليس إلى التخريب والدمار.

3. البعد الاقتصادي:

ويتمثل في حفظ المال من التلف والضياع وتنميته بالحركة والعمل والإنجاز والاستثمار, فإن الذي يؤكده الخبراء أن عجلة التنمية الاقتصادية لا تدور وأن الثروة لا تعرف النماء إلا في أجواء الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي.

4. البعد السياسي:

ويتمثل في صيانة كرامة الأمة وكيانها السياسي, وحماية وحدتها وضمان استقرار مؤسساتها وفاعلية نشاطها مما يجعلها قوية مهابة بين الأمم

5. البعد الثقافي:

ويتمثل في الحفاظ على العقل واستخدامه في التفكير السليم السوي وذلك بتوجيه اهتمام الناس إلى العلم والتعلم, وإلى البحث والإبداع العلمي والفكري والثقافي والفني والجمالي, فإن أجواء السلم والمصالحة تحرر العقول وتدفعها إلى العلم والبحث والتفكير في الأنفس والآفاق, وإن أجواء الحرب والفتن والقلاقل تكبل العقل وتشل حركته عن التفكير والبحث والتأمل.

6. البعد الإنساني العالمي:

ويتمثل في مد جسور التواصل والتعارف والتثاقف بين الشعوب والثقافات والحضارات, وإقامة حضارة إنسانية راشدة تختفي فيها النزاعات ويتحقق فيها التقدم العلمي والتقني والرفاه الاجتماعي والمادي والأدبي , مصداقا لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" [الحجرات:13].

الخلاصة:

نستنتج من خلال هذا البحث المتواضع, أن الخطاب القرآني يولي اهتماما وعناية قصوى للدعوة إلى المصالحة ويرسم الطريق لتحقيقها ويطلب من المؤمنين به أن يجعلوها العملة التي يتعاملون بها في حياتهم حتى يستقر لهم دينهم وتستقيم حياتهم وتعمر بالخير والصلاح.

المصدر:

http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=8881


(1) لمزيد من التفصيل: انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم, فؤاد عبد الباقي, دار الكتب العلمية, بيروت ـ لبنان.
(2) انظر: الإسلام عقيدة وشريعة, محمود شلتوت, ص/434.
(3) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة, برقم/1898, 4/ 273, وأخرجه البيهقي في شغب الإيمان, باب حفظ اللسان, برقم/4926, 4/ 238.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير