تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثالثاً: أن قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} فيه دلالة على النسخ من جهة أنه جعل فرض التقدير إلى الموصي، ولما أنه قد يقع من الموصي إجحاف أو ميل أو قصد مضارة كما تدل عليه الآية التي بعدها، تولى الله تعالى بيان ذلك الحق ببيان مقادير الميراث على وجه تيقن به أنه الصواب، وأن فيه الحكمة البالغة، والمراعاة الكاملة لأولى الناس فيها، وحدها بمقادير لا يمكن تغييرها مراعاة للضعفاء الذين كان من عادة أهل الجاهلية تركهم أو الإجحاف في حقهم. فتحول الحكم من جهة الإيصاء الذي هو بيد الموصي إلى الميراث الذي قدره الله تعالى عدلاً ورحمة.

قال الرازي: "لما نزلت آية المواريث .. بيّن أن ما تقدم كان واصلاً إليهم بعطية الموصي، فأما الآن فالله تعالى قدّر لكل ذي حق حقه، وأن عطية الله أولى من عطية الموصي" ([8]).

فعليه يكون حكم الآية في الفرضية منقولا للمواريث، ويبقى حكم فرضيتها ووجوبها في إنفاذها وتقديمها مطلقاً. كما تدل عليه الآيات بعدها ويدل عليه قوله تعالى: في آيات المواريث {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء11] وكل ذلك دال بمفهومه على استحبابها لغير الورثة.

وأما كون الوصية ندباً فيما سوى ذلك فظاهر من وجوه:

أولاً: أن بقاء التلاوة ونسخ الحكم دال على رفع الفرض وبقاء الندب؛ إذ لا بد من فائدة من بقاء التلاوة.

ثانياُ: يدل عليه الوصية بذوي القربى وتقديمهم في آية البر وغيرها من الآيات.

ثالثاً: أن القول بوجوب الوصية لغير الورثة من الأقرباء رغم دلالة الآية عليه إلا أنه لم يكن من عمل النبي × والصحابة، وهو خلاف قول الجمهور.

قال الألوسي: "إن الوجوب صار منسوخاً في حق الكافة، وهي مستحبة في حق الذين لا يرثون، وإليه ذهب الأكثرون" ([9]).

رابعاً: قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فخص المتقين، ولو كانت عامة لقال المؤمنين. وإن كان هذا له تخريج ظاهر ([10]).

المثال الثاني: في تقرير السياق لعدم وقوع النسخ في الآية.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة 240]. فهذه الآية من الآيات التي أشكلت على كثير من المفسرين، وقد اختلفوا في حكمها والعمل بها على قولين:

القول الأول: أنها منسوخة بالآية السابقة، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة 234]، وهو قول أكثر المفسرين.

القول الثاني: أن الآية محكمة وأنها تدل على حكم زائد على حكم الآية الأولى، فالآية الأولى تضمنت حكم تحديد العدة بأربعة أشهر وعشراً، وهذه الآية تضمنت الوصية بالسكنى بتمام الحول. فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها بعد العدة، وإن شاءت خرجت. فلا تعارض بينهما، وهذا قول مجاهد ([11]).

وبالتأمل في السياق يترجح القول الثاني لوجوه:

أولاً: أن غرض الآية ظاهر في كونها في الوصية للمتوفى عنها زوجها في المتعة بالسكنى بعد بيان حكم المتعة للمطلقة.

ثانياً: السياق اللفظي: وهو أن الآيات قبلها وبعدها في المتعة للمطلقات، فتكون هذه في المتعة، ويؤيده صريحاً قوله تعالى: {مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} ولم يقل (تربصاً إلى الحول)، والمعنى: جعل الله لهن ذلك متاعاً ([12]). كما يؤيده ورود آية المتعة للمطلقات بعدها مباشرة معطوفة عليها. وإذا تقرر ذلك كانت الآية مختلفة في الحكم عن الآية الأولى؛ إذ الأولى في العدة وهذه في متعة السكنى.

ثالثاً: أن القول بنسخ الآية السابقة لها، يشكل عليه كون موضع الآية بعدها، والأصل أن الناسخ يكون متأخراً عن المنسوخ في النزول والتلاوة، وهو وإن كان جائزاً في التلاوة إلا أن القول به يعد من سوء الترتيب، وتنزيه كلام الله واجب بقدر الإمكان ([13]).

رابعاً: أن القائلين بالنسخ يلزمهم القول بنسخ السكنى الثابت في الآية، وهو ثابت في حديث فريعة، فكيف يكون منسوخاً في الآية؛ ولهذا اختلفوا في وجوبه.

قال الرازي: "القائلون بأن هذه الآية منسوخة لابد وأن يختلف قولهم بسبب هذه المسألة، وذلك لأن هذه الآية توجب النفقة والسكنى، وأما وجوب النفقة فقد صار منسوخاً، أما وجوب السكنى فهل صار منسوخاً أم لا" ([14]).

وهذا القول رجحه ابن تيمية وابن كثير وغيرهما، قال ابن كثير: "وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس بن تيمية" ([15]).


([1]) انظر: ((البرهان في علوم القرآن)) (2/ 30)، ((مباحث في علوم القرآن للقطان)) (ص232).

([2]) ((البرهان في علوم القرآن)) (2/ 29).

([3]) ومن ذلك: الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس. والناسخ والمنسوخ لعبد القاهر البغدادي. والناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة. ونواسخ القرآن لابن الجوزي.

([4]) ((الإيضاح)) (ص55).

([5]) ((جامع البيان)) (2/ 124)، ((المحرر الوجيز)) (1/ 248)، ((مفاتيح الغيب)) (5/ 67).

([6]) ((المحرر الوجيز)) (1/ 248)

([7]) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 198).

([8]) ((مفاتيح الغيب)) (5/ 65).

([9]) ((روح المعاني)) (1/ 617).

([10]) ((الجامع لأحكام القرآن)) (1م/2ج/267).

([11]) انظر: ((جامع البيان)) (2/ 592)، ((المحرر الوجيز)) (1/ 326)، ((مفاتيح الغيب)) (6/ 134)، ((الجامع لأحكام القرآن)) (2/ 3/226).

([12]) انظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) (2/ 3/228) قال القرطبي: (متعوهن متاعاً، أو جعل الله لهن ذلك متاعاً لدلالة الكلام عليه).

([13]) انظر: ((اللباب في علوم الكتاب)) (4/ 343).

([14]) ((مفاتيح الغيب)) (2/ 136).

([15]) ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 659).
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير