4. بلسان الحال دون لسان المقال، ومثاله أنّنا نردّد أحياناً في أدعيتنا ومناجاتنا لله - عز وجل-: يا رب حالنا يغني عن سؤالنا، وأخاطب صديقي أحياناً فأقول له: لسان حالك يقول: إنّك أدّيت الامتحان بشكل جيّد، دون أن يكون قد نطق هو فعلاً بهذه الألفاظ، وقِسْ على هذه الوسائل أمثلةً عديدة موجودة في واقعنا اليوم مما هي كلام معتبر في اللغة، فمثلاً ضوء الإشارة الأخضر يعني لك في أثناء قيادتك للسيّارة: انْطلق، وضوؤها الأحمر يعني لك كذلك: قف، إلى آخر ذلك مما تحصل به الفائدة ويُسمَّى كلاماً لغوياً.
تَعْرِيفُ الكَلاَمِ فِي الاصْطِلاَحِ النَّحْوِي:
إذن فهذا الذي ذكرته هو تعريف الكلام في اللُّغة باختصار شديد، ولنبدأ الآن بتعريف الكلام عند النحْوين، فأقول: إنّ الكلام عند النحاة أخصّ من الكلام عند اللغويين؛ لأنه لا يكون إلاّ بالألفاظ بخلاف الكلام عند اللغويين فإنّه يكون بالألفاظ كما ذكرت ويكون بالإشارة وبالكتابة وبلسان الحال، فكلّ كلام عند النحاة لابد أن يكون بالألفاظ أي مشتملاً على بعض حروف الهجاء المعروفة:
أ ب ت ث ج وهذا هو الشرط الثاني من شروط الكلام عند النحاة بعد الشرط الأول الذي هو التركيب، وقد حدثتكم عنه في أوّل الدرس.
فمثلاً: حركتك لصديقك بيدك التي تعني بِها: تعالَ لا تُسمَّى كلاماً عند النحْويين؛ لأنّها ليست مشتملة على بعض حروف الهجاء، والرسالة التي تبعث بِها إلى أهلك إذا كنت مسافراً لا تُسمَّى كلاماً عند النحْويين للسبب نفسِه.
أمّا الشرط الثالث من الشروط التي يجب توافرها في الكلام النحْوي فهو أن يكون هذا الكلام مفيداً، ومعنى كوِنه مفيداً أن تحصل الفائدة من المتكلم بحيثُ لو سكت عن الكلام لم ينتظر منه السامع شيئاً آخر يقوله؛ لأنّ كلامه عندها يكون تاماً، فإن لم يفدْ بحيثُ يبقى السامع منتظراً لكلام آخرَ لم يكن كلاماً عند النحْويين، ولتوضيح ذلك أضرب لكم مثالاً:
لو بدأ واحد منكم بتلاوة شيء من القرآن الكريم ووصل عند قوله تعالى: "إنّ اللهَ وملائكتَه يصلّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً" وفي أثناءِ تلاوته توقّفَ عند كلمة (وملائكتَه) من قوله تعالى: " إنّ اللهَ وملائكتَه" ما الذي سنشعر به ونحن نستمع إلى هذه القراءة؟
الجواب: نشعر بأنّ الكلام ناقص - أي من حيث إفادته للمعنى لا من حيث هو -، ونكون بانتظار إكمال القارىء للآية؛ لأنّ وقفه لم يكن تاماً، والفائدة لا تحصل لنا من الآية إلاّ إذا أكملها ووقف مثلاً عند كلمة (النبيِّ) في قوله تعالى: "إنّ الله وملائكته يصلون على النبيِّ" فهذه الجملة جملة خبرية مفيدة فائدة تامة يحسن سكوت المتكلم عليها بحيث لا يصير السامع منتظراً لكلام آخر، وهذه الفائدة تحصل باجتماع المبتدأ والخبر في الجملة الاسمية، وباجتماع الفعل والفاعل في الجملة الفعلية، وهذه هي أركان ما يعرف بجملة الإسناد في العربية.
ولنأخذ مثالاً آخر لزيادة تقرير المعنى وتوضيحه،
فأقول: بعض الجمل في العربية جمل شرطية لا تقوم إلاّ باجتماع فعلين، يُعرف أوّلهما بفعل الشرط ويعرف ثانيهما بجواب الشرط، وحصول الفائدة في هذه الجمل الشرطية متوقف على اجتماع فعل الشرط وجوابه، وهذا واضح وعلى ضوئه نستطيع أن نفهم قوله تعالى: "وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجورَكم"، فهذه الآية عبارة عن جملة شرطية متكوّنة من حرف الشرط وهو (إن)، وفعل الشرط وهو (تؤمنوا)، وجواب الشرط وهو (يؤتكم)، وتحقّق الجواب الذي هو إيتاء الأجور متوقّف على تحقّق الشرط الذي هو حصول الإيمان والتقوى، فالجملة لا غموض فيها والفائدة تامّة باجتماع فعل الشرط وجوابه، لكن ماذا يحصل لو توقف أحدنا وهو يقرأ هذه الآية عند الجزء الأول من الجملة أعني عند فعل الشرط فقال: "وإن تؤمنوا وتتقوا" ثمّ سكت؟ الجواب: نطلب منه أن يكمل الآية، وأن يقرأ جواب الشرط حتى يكتمل المعنى، وتتم الفائدة، ويحسن سكوته عليها.
فالحاصل من هذا كله أنّ جملة فعل الشرط وحْدها لا تسمّى كلاماً عند النحاة،
وإنْ كانت بالنظر إلى ذاتها تسمى كلاماً، ولكنها بالنظر إلى احتياجها لجواب الشرط لا تُسمَّى كلاماً، لأنّ تمام فائدتها متوقف على جملة جواب الشرط، فالكلام النحوي في جملة الشرط لا يكون إلا باجتماع فعل الشرط وجوابه.
¥