وكان سيبويه في نظرية العامل التي شيد على أساسها النحو قد عد العلامة الإعرابية هي القرينة الوحيدة لفهم المعنى، وعلى خطاه سار النحويون ولم يخرج عنهم إلا القليل ممن انتقدوها مثل ابن مضاء القرطبي (في القرن السادس الهجري)، ولكن ظل الأمر قيد النقد الجزئي الذي يدور داخل النظرية من دون أن يستطيع منها فكاكا حتى فعلها تمام حسان الذي أعاد صياغة النظام النحوي العربي كله على أساس فكرة تضافر القرائن اللغوية في تحديد المعنى وعدم انفراد العلامة الإعرابية به إذ اعتبرها مجرد قرينة واحدة يمكن أن تختفي في بعض الأحوال، فلا تستطيع تحديد المعني.
وهو ما يستلزم في رأيه اللجوء إلى قرائن أخرى توضح المعنى وتجليه، وقد حدد تمام حسان عددا من القرائن التي لا بد منها (مثل قرائن: الرتبة، التضام، الربط، الضمائر، البنية، النغمة، أمن اللبس، مستوى الصواب والخطأ، التماثل الصوتي)؛ فالرتبة تقول إن ما يلي الفعل مثلا هو الفاعل ما لم يحدث استثناء، وقرينة التضام تعتمد على افتقار الكلمة لأخرى بعدها (مثل الموصول لصلة الجار لمجرور .. وهكذا بما يعين في فهم المعنى دون البحث عن العلامة الإعرابية).
لقد بنى حسان بهذه النظرية للنحو نظاما متماسكا قوامه القرائن المعنوية واللفظية بعد أن كان النحو في نظر الدارسين تحليلا إعرابيا فحسب، ولهذه النظرية الجديدة أهمية كبرى لا يمكن تبينها إلا حين تقرأ تطبيقاتها على فهم وتفسير القرآن الكريم؛ وهو ما أنجزه تمام حسان في كتابه الرائع "البيان في روائع القرآن" والذي هو تطبيق عملي لنظريته.
تجديد دراسة اللغة
اللغة العربية معناها ومبناها
هذه المقدمة النظرية لا بد منها للتعريف بالرجل، فهو عالمٌ فضّل أن يهجر الدنيا لنظريته ومشروعه فلم يُعن بكتابة المقالات العامة أو الحديث في كل شيء كما يفعل الكثيرون، بل نذر حياته -بلغ الثامنة والثمانين أمد الله في عمره- لفكرة واحدة: تجديد دراسة اللغة العربية .. ومن أجلها هانت عليه حياة هي أقرب للرهبنة.
كانت معرفتي الأولى بالعالم الجليل تمام حسان تشابه الأسماء الذي طالما كان محل تساؤل من أساتذتي في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ثم تعرفت عليه عبر قراءة مدرسية لكتابه "اللغة العربية مبناها ومعناها" لم تكشف لي عن قيمته التي لم أعرفها إلا حين تركت دراسة اللغة العربية وعملت بالصحافة، وظل في مخيلتي أشبه بأبي عمرو بن العلاء وسيبويه والخليل بن أحمد وأعلام العربية .. وربما كان اسمه التراثي المنغم سببا في هذا الشعور، وقد سعيت زمنا للقائه وزيارته.
ولما قابلته في بيته أول مرة تأكد لي صدق مشاعري؛ إذ رأيتني بإزاء رجل تعلوه هيبة ووقار تؤكده ملامحه الجادة، وبنيانه الجسماني القوي الذي يستدعي صورة القدماء، وكرمه ودفء لقائه الذي سيبين لك سريعا عن أصوله الصعيدية.
ما غاب عن خيالي من صورة تمام حسان هو المكتبة وطريقه عمله، فقد كنت أتصوره غارقا في الكتب القديمة والمخطوطات والأوراق المبعثرة، فإذا به يصطحبني لغرفة مكتب بسيطة وأنيقة ومنظمة، ثم هو يجلس على مكتبه ويفتح جهاز الكمبيوتر الخاص به ليراجع معي آخر بحث له في علم الصوتيات، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها شيخا تجاوز الثمانين يكتب أبحاثه ويراجعها بنفسه من الكمبيوتر!.
رحلة عطاء حافلة
وقبل أن نتحدث عن مشروعه لا بد من بعض المعلومات التي ربما تكشف صورة تمام حسان وقيمة مشروعه الفكري:
- فتمام حسان المولود في 27 من يناير عام 1918 في الكرنك بمحافظة قنا أقصى صعيد مصر، ينتمي إلى الجيل الذهبي من علماء الأمة الذين أتيح لهم التكوين الديني والعلمي الرصين والمبكر؛ فقد حفظ القرآن الكريم وجوّده على قراءة حفص وتم له ذلك في عام 1929.
- ثم غادر قريته في الكرنك ليلتحق بمعهد القاهرة الديني الأزهري في عام 1930.
- ومنه حصل على الشهادة الأزهرية في عام 1934، ثم الثانوية الأزهرية عام 1935.
- وبعدها التحق بمدرسة دار العلوم العليا عام 1939، ومنها حصل على دبلوم دار العلوم عام 1943.
- ثم حصل على إجازة التدريس من دار العلوم عام 1945.
¥