تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأخباره" (36)، كما أن (عن) في قوله تعالى: ("فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ... " الكهف 50) يصحّ أن تكون بمعنى (بعد) لأن " (عن) قد تجيء بمعنى (بعد) في مواضع كثيرة، كقولك: أطعمتني عن جوع، ونحوه، فكان المعنى: فسق بعد أمر ربه بأن يطيع" (37)، وكذلك تجيء (في) بمعنى (على) و (من) كما في قوله تعالى: ("أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ... " الطور 38) "أي: عليه ومنه، وهذه حروف يسدّ بعضها مسدّ بعض" (38)، كما أن اللام قد تسدّ مسد (إلى) كما في قوله تعالى: ("هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ... " آل عمران 167) حيث "سدّت اللام في قوله: (للكفر) و (للإيمان) مسدّ (إلى) " (39)، ورفض عند تفسيره قوله تعالى: ("يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ ... " نوح 4) أن تكون (من) بمعنى: (عن) لأن "هذا غير معروف في أحكام (من) " (40)، لكن الهروي ذكر لـ (من) خمسة مواضع منها: أن تكون مكان (عن)، كقولك: لهيت من فلان، أي: عنه (41).

ويتبين من هذا العرض أن ابن عطية اختار مذهب البصريين ولم يلتزم به، وهذا راجع – ربما- إلى أنه تتنازعه عاطفة الانتماء إلى المذهب البصري، والدلالة الظاهرة القريبة في نيابة حروف الجر بعضها عن بعض في المذهب الكوفي، فلا هو ضمّن الأفعال والعوامل معاني تتعدى بها إلى حرف الجر المذكور، ولا هو أقرّ باتباع الكوفيين في نيابة حروف الجر بعضها عن بعض فتفرّقت اختياراته بين المذهبين، غير أني أجد في هذا البحث الدلالي الذي لا يكاد يخلو كتابٌ نحويٌ منه تناقضاً مع ما تعارف عليه النحاة في حدّ علم النحو الذي اصطلحوا على أنه "علم بأصول يُعرف بها أحوال الكلم إعرابا وبناء" (42)، فقضية تعاقب حروف الجر قضية دلالية ليست من إعراب الكلم وبنائه في شيء، وتناول النحاة قضية دلالية كهذه يعني أن علم النحو لا يُعنى بإعراب الكلم وبنائه فحسب، وإنما يعنى أيضا بدلالات الكلم، فيكون من حقّه أن يكون حدّه أنه: علم يعنى بأحوال الكلم مبنى ومعنى.

والقول بنيابة حروف الجر بعضها عن بعض هو قول اعتمد الفهم المبدئي الظاهري، ويفتقر إلى الدقة والتمعن، ويجانب في كثير من الأحيان الصواب، ولا يتناسب مع دلالات الكلام العربي الذي من شأنه الدقة والدلالة على معان لطيفة تختلف باختلاف الأدوات المستعملة في كل أسلوب، كما أن القول بنيابة حروف الجر بعضها عن بعض غير مسلّم به على علاّته، وإلاّ "لجاز أن يقال: مررت في زيد، ودخلت من عمرو، وكتبت إلى القلم" (43)، ويحمل على قصد: مررت بزيد، ودخلت على عمرو، وكتبت بالقلم، وتفقد بهذا حروف الجر دلالاتها الخاصة بكل منها، ويصير الاستعمال إلى العبث أقرب منه إلى الاستخدام العربي الفصيح القوي، وربما التقَوُّل – حاشا لله- في الأسلوب القرآني الذي هو أعلى درجات الكلام العربي فصاحة وبيانا؛ وأُورد هنا مثالا على ارتباك القول بنيابة حروف الجر بعضها عن بعض من كتاب الله العزيز، فقد جاء فعل (الهداية) في القرآن الكريم متعديا إلى الثاني بنفسه تارة، وباللام ثانية، وبـ (إلى) أخرى، حيث تعدى بنفسه في نحو قوله تعالى: ("اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" الفاتحة 6) وتعدى باللام في نحو قوله تعالى: ("الْحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا لِهَذَا ... " الأعراف 43)، وقوله تعالى: ("إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلتِي هِيَ أَقْوَمُ ... " الإسراء 9) وتعدّى بـ (إلى) في نحو قوله تعالى: ("قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ... " الشورى 52) وغيرها في القرآن كثير (44)، فلا يعقل أن يقال هنا إن (إلى) بمعنى اللام، أو العكس، أو أن المتعدي بنفسه كما في آية الفاتحة إنما هو على إضمار حروف الجر؛ والحقيقة أن: اهدنا الحق، تختلف دلالتها عن: اهدنا للحق، وهما يختلفان عن: تهدي إلى الحق، وعلى هذا فإن لكل حرف معناه الخاص به، ولا يمكن بحال أن ينوب حرف عن الآخر، ويؤدي بتلك النيابة معناه، ولذلك كان ما نسب إلى البصريين - هنا- أكثر دقة مما نسب إلى الكوفيين، حيث لجؤوا إلى تضمين الفعل أو العامل معنى مع يتعدى بالحرف دون المساس بقيمة الحرف المعنوية، وأهليته لمكانه وأصدروا حُكمًا يقضي بأن "التجوّز في الفعل أسهل منه في الحرف" (45)، فضمّنوا الأفعال التي لا يعرف تعدّيها بحرف الجر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير