ظهرت كتب الفقه بعد ذلك فيها ذكر الخلافيات وفيها دليل كل قول إذا كان الكتاب في الفقه عاماً مقارناً يقارن فيه صاحبه بين المذاهب، أما إذا كان كتاب مذهب خاص فإنه لا يورد أدلة الأقوال الأخرى.
خذ مثلاً كتاب ابن حزم"المحلى بالآثار شرح المجلى بالاختصار"وهو كتاب ألّفه للمبتدئ من طلاب العلم كما نص عليه في أثناء كلامه على صور صلاة الخوف، قال:"وإنما كتبنا هذا الكتاب للمبتدئ من طلاب العلم وتذكرة للفقيه، وهذا واقع من جهة أن الناظر فيه يجد أنه يذكر أقوالاً متعددة بالإسناد، فهو عبارة عن جمع ما يراه ناصراً لأصل المسألة، وقد يذكر الخلاف ويذكر الترجيح، أما الاستيعاب فإنه في كتب مطولة أُخر.
في هذا الكتاب مثلاً هل هو كتاب فقه أم كتاب حديث، هو على طريقة كتب ابن المنذر من جهة أنه يذكر المسألة ويذكر الاستطراد بذكر الأدلة تارة بالإسناد، وقليلاً بلا إسناد.
إذا نظرت في هذا الكتاب يحصل عندك شيء من التردد في فهم المسألة، لم؟ لأنه جاء تقرير المسألة مع بيان الخلاف مع الأسانيد مع الدراية مع الاستنباط مع رأي ابن حزم الأصولي، مع رده على المخالفين.
مثال آخر: كتب ابن عبد البر"التمهيد""والاستذكار"وغيرها، شروح الموطأ، لكنها شروح نظر فيها إلى المسألة لا إلى المتن، فهو قد يشرح المتن ثم يخرج من المتن إلى المسألة ثم يفصل الكلام في المسألة كأنها مسألة فقهيه مستقلة، وهذا نوع من شروح كتب الحديث نقابله بكتاب ابن حزم، فكتب ابن عبد البر وكتاب ابن حزم متقابلان، هذا له طريقته وهذا له طريقته، إذا نظرت في هذا وهذا وجدت أن طريقة الفقهاء موجودة في كتاب ابن حزم، وطريقة المحدِّثين موجودة في كتاب ابن عبد البر، في الجملة.
بخلاف ما يظنه كثيرون، أن كتاب ابن حزم هو كتاب حديث، هو كتاب فقه، لكن فقه بناه على الأثر بتوسع، فكأنه صوّر المسائل الفقهية كمتن فقهي ثم استوعب ما في المصنفات وما نقل عن السلف في هذه المسائل ونظر فيها نظراً مختصراً، فهو كتاب فقه توسع فيه في الاستدلال.
تطورت المسألة من جهة التاريخ فدخلنا إلى مرحلة"المغني لابن قدامه، وما ماثله، مثل"المجموع شرح المهذب"للنووي، كتابان متقاربان من جهة أنهما كتابان فقهيان منهجهما واحد من جهة الفقه، هذا المغني كتاب حنبلي يعرض فيه إلى الأدلة والخلاف، وكتاب النووي كتاب شافعي يعرض فيه لتأصيل المسألة والأدلة والخلاف، يمتاز كتاب النووي عن كتاب ابن قدامه بأن فيه استيعاب للغويات، وفيه الحكم على كثير من الأدلة من جهة الإسناد، يقول: هذا إسناده صحيح، إسناده قوي، إسناده ضعيف ... الخ، وله ترجيحاته المخالفة للمذهب، كما أن ابن قدامة له ترجيحاته المخالفة للمذهب.
في مقابلتهما نذهب إلى كتب الحديث في ذلك الزمان"فتح الباري"مثلاً - بعده بزمان - فيه عرض المسألة بحسب إيراد البخاري واستيعابه للأدلة أو للخلاف هو بحسب حاجة المسألة إلى ذلك.
فنخلص من هذا العرض الموجز إلى أن كتب الفقه وكتب الحديث يخدم بعضها بعضاً، فمن نظر في شروح كتب الحديث وأراد أن يستفيد، فلا بد أن يكون مؤصلاً في الفقه، فإذا أصل في الفقه كان نظره في كتب الحديث جيداً، لِمَ؟ لأن كتب الحديث ما تصوّر المسألة، وإنما تبني على أن المسألة صورتها واضحة، وأما كتب الفقه فهي تصور المسألة ثم تذكر دليلها - هذا واحد.
الثاني: أن كتب الحديث ليس فيها استيعاب للأدلة على اختلافها، لكن كتب الفقه تجد أنه يذكر دليل المسألة إذا كان من الكتاب أو السنة أو القياس أو القواعد الخ ذلك. يذكر كل ما في الباب عنده من أدلة في هذه المسألة؟
الفرق الثالث: أن كتب الحديث فيها إيراد المسألة بحسب مجيء هذا الحديث دون تكامل للباب، يعني الباب في كتب الحديث لا يتكامل في ذهن طالب العلم، فإذا نظرت مثلاً في كتاب الجهاد في البخاري، أو الإمارة في مسلم، أو نظرت في باب من الأبواب في كتب الحديث فتجد أن هذه الأبواب فيها من الفوائد بقدر مجيئها في السنة لأنه مبني على الاستدلال من السنة فقط، لكن كتب الفقه يكون فيه عرض الباب بذكر المسائل التي تدخل تحت هذا الباب ودليلها من القرآن أو من السنة - وهو موجود في كتب الحديث- أو من القياس أو من القواعد أو من قول صاحب أو استنباط، أو فتوى للإمام، فتجد أن المسائل في كتب الفقه أكثر منها في كتب الحديث.
يعني ذلك أن من نظر في كتب الحديث جميعاً فإنه يخلص بنتيجة وهي أن المسألة إذا كان دليلها حديثاً عن النبي - عليه الصلاة والسلام - فهو موجود في كتب الحديث بتفصيل وببيان الخلاف فيه ودرايته وروايته وما يتصل بذلك، لكن إذا كان دليلها قاعدة عامة، دليلها آية، دليلها القياس، دليلها قول صاحب، دليلها فتوى الإمام، فلا تجدها في كتب الحديث.
ينبني على ذلك أن الناظر في كتب الفقه يكون الباب في ذهنه أرتب وأوسع، لكن كتب الفقه فيها قصور - في العموم - من جهة النظر في الحديث أو في المتن بدون تأثر صاحب المذهب بمذهبه في النظر، لأنه يكون الدليل من السنة مثلاً في البخاري لكن في كتاب المذهب الفقهي ولو كان مطولاً خلافياً، فيه الخلاف العالي والنازل، لكن يكون نظره في الحديث بناءً على مذهبه، هذه الحيثية هي نوع من القصور في كتب الفقه من جهة طالب العلم المتوسع، فيكملها بالنظر في كتب الحديث، لكن كتب الحديث - يعني الشروح المطولة - تجد أن المسألة لا يتصو&
¥