ومن الجدير بالذكر أنَّ علماء الحديث تنبهوا لهذا النوع فأفردوه بالذكر وصنفوه في خانة لها تعلق بعلم الحديث، وذلك ضمن كلامهم على الحديث المسلسل، ......
المبحث الثاني
أساليب التشويق السمعية
وهي تلك الأساليب التي يقصد منها تشويق السامع ولفت انتباهه من خلال مؤثراتٍ تدرك بالسمع يتقصدها القائل لإيصال رسالة أو معلومة مهمة للسامع، وهذه الأساليب موجودة بكثرةٍ وتنوُّعٍ في الأحاديث النبوية الشريفة، وهذا بيان ذلك:
المطلب الأول: التشويق من خلال تكرار الكلمة أكثر من مرة.
من المعلوم أنَّ التكرار يولِّد القرار، ويُورث الحفظ والفهم، وقد يكون التكرار لإثارة الانتباه وجذب السامع، وجعله يصغي لما سيقال، وتكرار الكلمة كان أسلوباً من أساليب الخطاب النبوي، إذ روت السيدة عائشة (13) (رضي الله عنها) أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) ((كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه))
وعند مطالعتنا لكتب السُّنة نجد تطبيقاً عملياً لهذا، إذ روى مسلم (14) وغيره (15) عن أبي ذرٍ (رضي الله عنه) أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، ثلاث مرات،)) ونجد أنَّ هذا الأسلوب قد آتى ثماره إذ إنَّ الراوي وهو أبو ذرٍ قد تفاعل بشدةٍ من خلال تكرار النبي (صلى الله عليه وسلم) لهذه الكلمات، فقال: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟
وهناك أمثلة كثيرة على تكرار الكلمة ثلاث مرات (16).
ومما يقرب من هذا الأمر أنَّه (صلى الله عليه وسلم) كان يجعل السائل والمستفسر عن شيء يكرره ثلاث مرات حتى يلفت انتباه من يسمعه من الحاضرين، وبالتالي ينتبهون لما سيجيبه به (صلى الله عليه وسلم) به، لأنَّ غالب الأمور التي كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يطلب فيها من السائل أو المستفسر الإعادة هي من المهمات، والتي ينبغي لأكبر عدد ممكن أن يسمعها ويعيها، لذا كان يطلب التكرار.
ومثال ذلك ما رواه مسلم (17) عن أبي هريرة قال: ((خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عامٍ يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم .... ))
ونظير هذا ما رواه مسلم كذلك عن أبي هريرة ٌقال: ((ثم قيل للنبي (صلى الله عليه وسلم): ما يعدل الجهاد في سبيل الله- عز وجلَّ-؟ قال: لا تستطيعوه، قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول لا تستطيعونه، وفي الثالثة قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت بآيات الله لا يفتر من صيامٍ ولا صلاةٍ حتى يرجع المجاهد في سبيل الله))
وهذا المثال كسابقه من حيث جعل السائل يكرر سؤاله أكثر من مرةٍ، لكن فيه أسلوب إثارةٍ إضافي وهو أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يعقِّب على سؤالهم بقوله: (لا تستطيعونه)، ليزيد من انتباههم ويشوقهم لما سيقال.
وقد يكون التكرار أكثر من ثلاث مرات، خروجاً عن المعتاد في التكرار، ولا شكَّ أنَّ في هذا إثارةً أكبر، وتشويقاً أعظم، وهذا لا يتكرر ويتأتى إلا لهدف عظيم؛ لحثٍ على أمرٍ عظيم، أو لتغيير أمرٍ جدُّ ذميم.
ومثال ذلك ما أخرجه البخاري (18) عن أبي بكرة قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثاً)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً فقال: ألا وقول الزور، قال فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت))
ونظير هذا ما رواه عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: ((قرأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على المنبر: {والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر:67]،قال: يقول الله –عز وجل-:أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا المتعال، يمجد نفسه، قال: فجعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرددها حتى رجف به المنبر، حتى رجف به المنبر، حتى ظننا أنَّه سيخر به))
فهذان الحديثان يظهران أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) ظلَّ يكرر هذه الألفاظ حتى يثير انتباه أكبر عدد ممكن، وهذا ما كان من خلال وصف الراوي لدقائق هذا التكرار.
المطلب الثاني: الخروج عن المعتاد في الكلام والتصرفات.
¥