والخروج عن المعتاد في الخطاب هو أحد أساليب التشويق وإثارة الانتباه، ولكن الخروج عن المعتاد يتناوله أكثر من أمرٍ، ومن ذلك:
أولاً: الخروج عن المعتاد في صفة الكلام: حيث إنَّ كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) كان فيه ترتيل وترسيل وفصل (19)، يفهمه كل من سمعه، فهو ليس بالجهير العالي الّذي يؤذي سامعه، ولا
بالخفيض الّذي لا يسمعه من يقابله، وإنَّما كان فصلاً، وكيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفة لا يمدحها ولا يحبها؟ حيث روى الطبراني (20) بإسناد ضعيف وحسّنه السيوطي (21)،عن أبي أمامة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان يكره أن يرى الرجل جهيراً رفيع الصوت، وكان يحب أن يراه خفيض الصوت)). وقال المناوي (22) في شرح هذا الحديث: ((أُخذ منه أنَّه يُسن للعالم صون مجلسه عن اللغط، ورفع الأصوات، وغوغاء الطلبة، وأنَّه لا يرفع صوته بالتقرير فوق الحاجة، وقال ابن بنت الشافعي: ما سمعت أبي أبداً يُناظر أحداً فيرفع صوته، قال البيهقي: أراد فوق عادته، فالأولى أن لا يجاوز صوته مجلسه))
والخلاصة: أنَّه ينبغي للمتكلِّم والقاريء أن يتكلم بكلام يُسمع فيه نفسه وغيره، ولا يرفع صوته أكثر مما يحتاجه الموقف ولا يخفضه أكثر من اللازم إلا لسبب وضرورة، وعليه أن يسلك أمراً وسطاً، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لو كان الكلام بغير هذا لعُدَّ خروجاً عن المعتاد، واستحق أن يذكر ويُنعت بدقةٍ كأسلوب من أساليب الإثارة والتشويق.
ومثال ذلك ما رواه جابر قال (23): ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه،حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومسّاكم))
فعلو الصوت مع اشتداد الغضب واحمرار الوجه، لم يكن من عادته صلى الله عليه وسلم وإنما كانت تحصل في حالات خاصة لهدف محدد، قال ابن عثيمين في شرحه للحديث (24): ((وإنما كان يفعل ذلك لأنَّه أقوى في التأثير على السامع)) لهذا كانت مؤثراتٍ تشدُّ السامع لما سيقال، وبهذا يكون هذا الحديث قد اشتمل على أكثر من مؤثر.
ثانيا: الخروج عن المعتاد في التَّصرُّف.
ونظير هذا ما رواه الإمام أحمد (24) عن أبي بكر الصديق قال: ((أصبح رسول الله ?ذات يوم فصلى الغداة ثم جلس، حتى إذا كان الضحى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس مكانه حتى صلى الأولى والعصر والمغرب، كل ذلك لا يتكلم، حتى صلى العشاء الآخرة ثم قام إلى أهله))، فقال الناس لأبي بكرٍ:ألا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قط؟ قال: فسأله، فقال: ((نعم عرض عليَّ ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة، فجمع الأولون والآخرون بصعيد واحد ...... الحديث))
ففي هذا المثال يتبين كيف أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد تعمد هذه الإثارة، وكأنه يشير إليهم أن سلوا، ولكنهم هابوا أن يسألوا عن حالٍٍ من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فدفعوا أبا بكرٍ لهذه المهمة، لما يعرفون من مكانته من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنهم سينتظرون الجواب بترقبٍ واهتمام، سيما وأنَّ فترة هذه الإثارة قد طالت – من الفجر إلى ما بعد العشاء – حتى يلاحظها كل أحدٍ، ويسمع عنها أكبر عددٍ ممكن، فيأتي ليعرف سبب هذا التصرف غير المعتاد من النبي صلى الله عليه وسلم ويحصل بهذا المقصود.
ويلتحق بهذا اللون من التشويق تغيُّر اللون أثناء الكلام، إذ يُعدُّ ذلك أسلوباً من أساليب الإثارة، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة قال (25): ((كنا نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على قبرين، فقام فقمنا معه، فجعل لونه يتغير حتى رعد كم قميصه، فقلنا: مالك يا نبي الله؟ قال: أتسمعون ما أسمع؟ قلنا: وما ذاك يا نبي الله؟ قال: هذان رجلان يعذبان ... الحديث))
وكذلك ما رواه علي (رضي الله عنه) قال (26): ((ذكرنا الدَّجال عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستيقظ محمرَّاً وجهه فقال: وغير ذلك أخوف عليكم .... الحديث))
فهذان المثالان يدلان على أنَّ تغير اللون أثناء الكلام أسلوبٌ من أساليب التَّشويق وإثارة الانتباه، ولهذا انتبه لها الرَّاوي فذكرها مع الحديث الذي سيقت لأجله.
¥