ومن الخروج عن المألوف مناداة من لا يعقل، أو من هو في غياب عن الواقع،كمناداة النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى بدر (27)، عندما ألقاهم في القليب، مما أثار الصحابة (رضوان الله عليهم) فسألوه: كيف يناديهم وقد ماتوا وجيفوا؟، فيخبرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنهم ليسوا بأسمع له منهم، ولكنهم لا يستطيعون الإجابة فحسب.
ثالثاً: الكلام بما لا يعرفه السامع أو لا يفهمه حتى يستفسر عنه:
لقد كان من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في إثارة انتباه الصحابة وتشويقهم، أن يكلمهم ببعض ما لا يعرفون أو يفهمون، وهو يعلم أنَّهم لا يفهمون كلامه حتى يطلبون التوضيح منه، والإفادة عما ذكر، وهذا أسلوب ناجع جداً، فلو أنَّ المعلم وصل إلى حث سامعيه على الاستفسار لقلنا أنه حقق نجاحاً في مهمته، فكيف إذا حثهم على التساؤل وأثار فضولهم من خلال ذكره لأمور يجهلونها ولا يعرفونها.
ومن ذلك الحديث الذي مرَّ معنا عن علامات الساعة، وذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم (ويكثر الهرج)، والهرج كلمة لم تكن معلومة لديهم لذا سألوا عنها، كما مرَّ معنا عند الاستشهاد بهذا الحديث على التحول من الكلام إلى الإشارة، وأزيد هنا فأقول: روى البخاري (28) عن أبي موسى راوي الحديث أنَّه قال: ((الهرج؛ القتل بلسان الحبشة)).
وكذلك ما رواه مسلم (29) عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((اتقوا اللعانين، قيل: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الّذي يتخلّى في طريق الناس وظلهم)).
ومن ذلك أيضاً استعماله صلى الله عليه وسلم لمصطلحاتٍ لا يعرفونها لإثارة انتباههم والسؤال عنها، كقوله صلى الله عليه وسلم (30): ((من استطاع منكم أن يكون مثل صاحب فَرَق الأرز فليكن، قالوا: يا رسول الله، وما صاحب فَرَق الأرز؟ ٌقال ... ثم ساق الحديث)).
ونظير ذلك ما رواه الترمذي (31) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من جبِّ الحزن، قال يا رسول الله وما جبُّ الحزن؟ قال: وادٍ في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يومٍ مائة مرة .... )) (32).
ففي هذه الأحاديث ذكرٌ لاصطلاحات لم تكن معلومة لديهم، وأرى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تعمّد ذكرها ليحثهم على التفاعل والتساؤل، وهذا ما كان، مما يؤكد أنَّ هذه الطريقة آتت ثمارها.
ثالثا: ورود ما يُثير التعجب الاستغراب، وبالتالي الانتباه والتساؤل.
وهي أقوال أو أفعال تثير الاستغراب بين السامعين، نظراً لعدم توقعم صدورها عمن صدرت عنه، ومن ذلك حديث جبريل الطويل، عندما سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الإسلام، فأخبره فقال له: صدقت، وهذا أمر يثير الدهشة والعجب،ولهذا عبَّر الراوي بقوله: فعجبنا له يسأله ويصدقه، إذ من المعلوم أنَّ السائل يسأل النبي (صلى الله عليه وسلم) فيجيبه فيمتثل لما أجابه، أما أن يُعقِّب على الإجابة بقول: أصبت أو أحسنت،فهذا يدل على أنَّ السائل يعلم إجابة ما سأل عنه، وهذا ما أثار استغراب الحاضرين وشوقهم لسماع بقية حواره مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومحاولة معرفة هوية هذا السائل الغريب الّذي يسأل ويعرف إجابة ما سأل عنه من خلال تعليقه على الإجابة، قال القرطبي (33): ((إنما تعجبوا من ذلك لأنَّ ما جاء به النبي (صلى الله علي وسلم) لا يعرف إلا من جهته، وليس هذا السائل ممن عرف بلقيه النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولا بالسماع منه، ثم هو سأل سؤال عارف محقق مصدق فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لأن يكون أحدٌ يعرف تلك الأمور المسؤول عنها من غير جهة النبي صلى الله عليه وسلم))
ومثال ذلك أيضاً ما رواه البخاري (34) عن عدي بن حاتم قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ((اتقوا النار، ثم أعرض وأشاح، ثم قال: اتقوا النار، ثم أعرض وأشاح (ثلاثاً)، حتى ظننا أنَّه ينظر إليها، ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة)).
المبحث الثالث
التشويق من خلال أمور خارجة عما مر كالبلاغة أو الترغيب والترهيب
¥