فكما أنَّ التشويق يكون من خلال أساليب لها تعلُّق بالسمع أو البصر – وهو الأكثر-، فهناك إثارة من خلال صفة الكلام وطبيعته، من حيث الأسلوب والبلاغة، وهذا يتذوقه من يعرف العربية، وله اهتمام بأساليبها ودقائقها، في حين قد يراه الآخرون أسلوباً عادياً وهو ليس كذلك.
المطلب الأول: التشويق من خلال أمور لها تعلُّق بالعربية.
من المعلوم أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) من أفصح البشر، وهو مرسلٌ إلى الناس جميعاً وعلى رأسهم العرب أهل الفصاحة والبلاغة، ولهذا اقترنت الأحاديث النبوية الشريفة بكثير من المباحث اللغوية والبلاغية، وعند جمعي للأحاديث التي اشتملت على أساليب تشويق وإثارةٍ، وجدت أنَّ عدداً من الأحاديث يصدق عليها عنوان هذا المبحث، وذلك من خلال:
أولاً: الإجمال ثم التفصيل. والإجمال عندما يرد في أقوال الرسول (صلى الله عليه وسلم) فإنه يكون غالباً لحث السامعين على طلب التفاصيل، وهو ادعى للإثارة والتشويق، وذلك كأن يذكر عدداً لخصالٍ أو أصناف، ثم يذكر هذه الأصناف أو الخصال، أو يذكر كلاماً مجملاً ويتوقف حتى يقود السامع لطلب تفصيل ما أُجمل.
ومثال ذلك ما رواه مسلم (35) عن تميم الداري أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((الدين النصيحة))، وفي بعض الروايات أنَّ (صلى الله عليه وسلم) كرر هذا القول ثلاث مرات ثمَّ سكت، مما استثار الحاضرين من الصحابة وجعلهم يتساءلون لمن هذه النصيحة؟ ولهذا جاءت تتمة الحديث: ((قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم))
فبهذه الروايات يكون هناك أكثر من إثارةٍ، أولها: الإجمال لإلهاب نفس السامعين وتشويقهم لطلب التفصيل، والثاني: تكرار ما أُجمل، ولهذا قال ابن حجر الهيتمي،: ((فيه إشارة إلى أنَّ للعالم أن يكل فهم ما يلقيه إلى السامع، فلا يزيد في البيان حتى يسأله لتشوق نفسه حينئذ إليه، فيكون أوقع في نفسه مما إذا هجمه من أول وهلة)).
ومن هذا القبيل كذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) (36): ((آمركم بأربع، وأنهاكم عن أر بع)) ثم أخذ يفصِّل ما أجمله بقوله أربع في كلٍ من المأمورات والمنهيات، ففي قوله: (آمركم بأربع) إجمال، وكذا في قوله: (وأنهاكم عن أربع)،قال ابن حجر (37): ((والحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير، أن تتشوف النفس إلى التفصيل ثم تسكن إليه، وأن يحصل حفظها للسامع، فإذا نسي شيئاً من تفاصيلها طالب نفسه بالعدد، فإذا لم يستوف العدد الّذي حفظه علم أنَّه قد فاته بعض ما سمع))
ونظير ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) (38): ((بني الإسلام على خمس)) ثم الشروع في تفصيل هذه الخمس.
ثانياً: تقديم الخبر على المبتدأ أو المعمول على العامل. فتقديم ما حقه التأخير وتأخير ما حقه التقديم فيه إثارة وتشويق، لأنه خروج عن قواعد الكلام المعتادة، ولا شك أنَّ هذا الخروج لابد أن يكون له سبب، أو أنه سيق لسبب وغالباً ما يكون إثارة انتباه السامع حتى يصغي لهذا الكلام، ومثال ذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال (39): ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم))، فلفظة كلمتان هي الخبر،وحبيبتان وما بعدها صفة، وسبحان الله وما بعدها خبر، قال الشرقاوي (40): ((وقدم الخبر ليشوف السامع إلى المبتدأ، فيكون أوقع في النفس، وأدخل في القبول، لأنَّ الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب))
ومن ذلك أيضاً قوله (صلى الله عليه وسلم) (41): ((خلّتان من حافظ عليهما أدخلتاه الجنة، وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل، قالوا: وما هما يا رسول الله؟ قال: أن تحمد الله وتكبره وتسبحه ..... الحديث))
¥