تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومن التقديم والتأخير؛ تقديم العقوبة على الذنب المتوعد عليه، وهذا اللون وإن لم يكن له علاقة بمسائل اللغة إلا أنه يقترب من عنوان هذا المطلب وهو: التقديم والتأخير، وهاهنا أسلط الضوء على أحاديث في الترغيب والترهيب، التي تتقدم فيها ذكر العقوبة لتشويق السامع وإثارته ليصغي حتى يعرف الذَّنب الذي اقترن بهذه العقوبة التي تقدمته، ويمكن أن نذكر حديث أبي ذرٍ ((ثلاثة لا يكلمهم الله)) كمثال على هذا النوع، حيث إنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قدَّم ذكر العقوبة وهي: لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب عظيم، قبل أن يُبين هذه الأصناف المتوعدة، مما أثار الراوي وجعله يتساءل عن هؤلاء، ومن هم؟ وما هو الذَّنب الذي لأجله استُحقت هذه العقوبة، وبالتالي حصول المراد من هذا الأسلوب.

ومن هذا القبيل كذلك تقديم نفي الإيمان، أو إلصاق الكفر، أو النفاق، ثم ذكر الأعمال التي لأجلها استحُق هذا الوصف، كقول النبي (صلى الله عليه وسلم) (42): ((أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خَلَّة منهن كانت فيه خَلَّة من النفاق حتى يدعها؛ إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر))

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (43): ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الّذي لا يأمن جاره بوائقه))

فنلاحظ في هذه الأحاديث تقديم نفي الإيمان، أو تقديم إثبات النفاق، في أسلوب من الإثارة والتشويق ملحوظ لا يخفى على من له اهتمام بهذا الشأن.

المطلب الثاني: التشويق من خلال طرح الأسئلة، وطلب الإجابة من السامعين.

والتشويق من خلال طرح الأسئلة أمرٌ في غاية الأهمية، وهو واضحٌ جلي، بل إنَّ الكثيرين لربما لا يستحضرون عند ذكر التشويق من خلال الأحاديث النبوية إلا هذا اللون، وهو طرح الأسئلة، نظراً لكثرته وتنوعه في الأحاديث النبوية.

وعند الاستقراء وجدنا أنَّ التشويق بطرح الأسئلة على السامعين لاستثارتهم جاء على عدة حالات؛ فقد يطرح النبي صلى الله عليه وسلم الأسئلة في أمور معلومة لديهم ليؤكدها لهم، أو ليبين أنَّ المعنى الحقيقي لما قيل غير ما يعرفون، وإما لأمور لا يعرفونها فيحثهم على طلب معناها والمراد بها.

ومن الأمثلة على طرحه صلى الله عليه وسلم السؤال ليؤكد ما عند السامعين من معلوماتٍ قوله (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه في خطبته يوم النحر: ((أي شهر هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنَّه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فأيُّ بلدٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنَّه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس البلدة؟ قلنا: بلى، قال: فأيُّ يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنَّه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: فإنَّ دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ... )) (44)

ففي هذا الحديث تتبين لنا شدة الإثارة، عندما يسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور معلومة لديهم، كاليوم، والشهر، والمكان، ثم يؤكد لهم ما كان معلوما لديهم في طريقة لا تقلُّ إثارة عن الطريقة التي سأل بها، نظراً لأهمية ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تقريره، وهو شدَّة حرمة الأعراض والدماء والأموال، قال القرطبي (45): ((سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل واحد منها، كان ذلك استحضاراً لفهومهم وتنبيهاً لغفلتهم وتنويهاً بما يذكره لهم حتى يقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه))، وعلق ابن حجر (46): ولهذا قال بعد هذا كله: فإن دماءكم الخ، مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء.

فهذه الأمور التي ورد ذكرها في الحديث معلومة لديهم، ولكنهم هابوا أن يُجيبوا خوفاً من أن يكون النبي (صلى الله عليه وسلم) أراد تغييرها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير