ويكون ذلك الاختيار للمصادر المعيّنة من الباحث انتقاءً وتشهياً من قبله، وليس لسبب مقبول، وليس ثمة سبب مقبول -بطبيعة الحال- يمنع أيّ باحث من مراجعة المصادر المتخصصة في الموضوع الذي يعالجه؛ إلا أن يكون أراد أمراً يخفيه.
فهذا عيب منهجيٌّ معدود في جملة العيوب المنهجية في الدراسات البحثية والحالةُ هذه؛ فما القول لو أن هذا الباحث المدعى نظر في مسألة من علم ليس من تخصصه، وليست له فيه دراسة أو خبرة ودراية؛ ثم هو يهجم على الاستدراك والتصويب في مسائل هذا العلم، وقد بنى كلَّ بحثه على وجهات نظره الخاصَّة؛ ومرئياته الذاتية على البديهة، وعلى ما يقع في فهمه بادي الرأي، بلا تأمل ولا اعتبار، ودون رجوع إلى أي مصدر إطلاقاً!، لا من المصادر المتخصصة ولا من غيرها .. أبداً!، فما الظن بنتائج دراسة هذا منهجها.
وهذا الصنيع من جحود البيِّنات، وردّ الحق بلا برهان؛ وفي معناه يقول ربنا تبارك وتعالى: (قُتل الإنسان ما أكفره)؟؛ قال الإمام العماد ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وهذا لجنس الإنسان المكذِّب؛ لكثرة تكذيبِهِ بلا مُستَنَد، بل بمجرَّد الاستبعاد وعدم العلم) (2)، وهو مشابه لحال الكفار الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: (بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمَّا يأتهم تأويله)؛ أي: أنهم كذَّبوا به على البديهة قبل التدبُّر ومعرفةِ التأويل (3).
وحتى يظهر قبح مثل هذه الطريقة في المسائل العلمية والبحثية؛ فإنّي أضرب مثلاً لحال هذا الإنسان: كحال رجل من العامة الأميين، وقع في يده كتابٌ في علم الطبّ لأول مرَّة يراه، وطلب من أحد الجالسين أنْ يقرأه عليه، ثم إنه لما استشكل بعض ما في الكتاب؛ واستغرب بعض الاصطلاحات والأدوية= شرع يؤلف كتاباً يردّ فيه المسائل التي استشكلها، ويبطل فيه الأدوية التي لم يسبق له أنْ سمع بها، فيبدي إشكالاته متذاكياً متحذلقاً على طريقة الألمعي في الانتقاد: كيف يمكن لقرص دواء "البندول" يبتلعه الإنسان في بطنه ويعالج ألم رأسه، وفرق بين البطن والرأس!؛ ثم يتنحنح -منتشياً- ويمتخط ويعتدل في جلسته: كيف للأطباء أنْ يدّعوا علم الغيب فيزعمون أنّ هذا الدواء يعالج صداع الرأس ويخفف ألمه، هل نزل عليهم بذلك وحي، أم شهدوا أسرار الغيب .. !!.
فهذه مَخْرَقَةٌ وتَحَامُقٌ، وليست من المباحثات العلمية في قَبِيلٍ ولا دَبِير، وجميع هذه الغَبَاوَات والإشكالات لم تنشأ من مشكلٍ حقيقي في المسألة المعينة، وإنما هي أثرٌ للجهل وجِدَّة المعلومة، ولو سألَ أهل الاختصاص لداووا طِبَّهُ، وأنعشوا بالعلم لُبّه، ولكن الحرمان لا نهاية له.
هذا بالضبط نظير ما فعله "ابن قرناس"؛ فليس في كتابه نقل عن أي مصدر من كتب علم الحديث والمصطلح ولا من غيره، ففي أول (100) صفحة من كتابه –وهي مجال هذا الردّ- يلحظ أنه قد خلت كلُّ حواشيه من أي إحالة على أيّ مصدر علمي مطلقاً؛ إلا الإحالات على مواضع الأحاديث المنتقدة من صحيح البخاري (3)، وهذه جُرأةٌ علمية مذمومة، بل هي تحامق وتغرير بالنفس، فهو يناقش مسائل حديثية وفقهية واصطلاحية؛ ولا يمكن علاجها إلا بالرجوع إلى المؤلفات فيها، وهو لم يفعل شيئاً من ذلك.
وهذا كله يضعف الثقة بطريقة علاج المسائل المدروسة، ويسقط الاعتماد على النتائج التي توصل إليها من خلال بحثه.
- - - - - -
الحواشي:
1 - مقتبس من كلام شيخنا الأستاذ الدكتور (خالد الدريس) في ردِّه على المستشرق شاخت.
2 - تفسير ابن كثير8/ 322.
3 - الدر المصون في علم الكتاب المكنون 1/ 2314.
4 - يلاحظ أيضاً أنّ الكاتب أحال خلال هذه الصفحات المائة على كتاب آخر له، سماه: (سنة الأولين) في خمسة مواضع، ويبدو أنّ هذا نوع نرجسية حالمة يعاني منها "ابن قرناس"، وأيضاً فهو قد جعل حاشية في صفحة (51)، نقل فيها عن كتاب تقريب التهذيب نقلاً لا علاقة له بالكلام في صلب الكتاب، وعليه فهذه الإحالة لا تعكر ما قررته في الأعلى.
ـ[صلاح الزيات]ــــــــ[27 - 08 - 10, 06:08 ص]ـ
المبحث الثالث:
الشك غير المنهجي
¥