يقول شيخنا الأستاذ الدكتور خالد بن منصور الدريس: {(يعطي أساتذة المنهجية الشك المنهجي مكانة مهمة، عبّر عنها أحدهم بقوله: ((في كل علم ينبغي أن تكون نقطة البدء هي الشك المنهجي. فكل ما لم يثبت بعد، ينبغي أن يظل مؤقتاً موضوعاً للشك، ولتوكيد قضية ما ينبغي تقديم الأسباب التي تبرر الاعتقاد بأنها صحيحة صادقة)).
وقد عرف مجمع اللغة العربية الشك المنهجي بأنه: ((مرحلة أساسية من مراحل منهج البحث في الفلسفة، وقوامها تمحيص المعاني والأحكام تمحيصاً تاماً بحيث لا يُقبل منها إلا ما ثبت يقينه، ومن أبرز من قال به الغزالي ثم ديكارت. فعلى الباحث أن يحرر نفسه من الأفكار الخاطئة " بالشك "، وأن يتروَّى فيما يعرض له، فلا يتسرع في حكمه))} (1)، ويجيب فضيلته عن إشكالية: متى يحكم على العمل بأنّه مشتمل على شك غير منهجي، فيقول: {يكون كذلك إذا كان الشك فيه إفراط وإنكار ونفي؛ من دون بيِّنةٍ أو قرينةٍ مقبولة} (2).
فأما الكاتب "ابن قرناس" في كتابه هذا: فقد تَقَلَّبَ في الشك غير المنهجيّ ظَهْراً لبطن، ولم يَبْقَ في جَسَدَه عِرقٌ ولا مِفْصَلٌ إلا وداخَلَهُ فيه الشك في سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحديثه، دون أنْ يوجد دليلاً واحداً يقوم عند الحجاج على صدق شكوكه وأوهامه، ولك أنْ تتصوَّر حجم هذه الشكوك في نفسه وهو يردّد عن الحديث النبوي من بداية بحثه عباراتٍ من مثل: ("أساطير"، "مختلق"، "فيها حذف"، "تبديل"، "تعديل"، "إضافة"، "مبتور"، "نسج الخيال")، سِتْرَكَ يا ربّ، كلُّ هذه الأوهام كيف احتملها قلبٌ واحدٌ اجتمعت فيه وصبر عليها!.
يقول الكاتب في هذا السبيل: (لو ثبت عن الرسول .. بطرق قطعية، وهو ما لا يتوافر فيما يسمى بالحديث، ولكننا نقول جدلاً إنه حتى لو ثبت عن الرسول غير القرآن: فلا يمثل دين الله) (3)، فلاحظ كيف استولت عليه هواجيس الشك واحْتَوَشَتْهُ وُحُوشُهُ، حيث إنه يعتقد أنه لو ثبت بشكلٍ قاطع عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سنةٌ فإنه -مع قطعيَّة ثبوتها- لا يقبله في دين الله!، وهذه مرحلة متقدِّمة من "التَّسْهِيب" (4)، وللعلم فإنّ من شك في القطعيات والمسلمات، ككون الشمس طالعة مثلاً؛ فقد تُوُدِّع من عقله.
ويقول أيضاً عن حديث ابن عباس 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس)، فقال "ابن قرناس": (وبطبيعة الحال هذا لم يحدث، ولا يمكن أن يكون حدث) (5)، وهذا النفي منه: إما أن يكون لخبر غيبيّ بلغه، وإما أن يكون لشهوده الحادثة وثبت عنده عدم حصول السجود، وإما أن يكون لمانع عقلي يقطع بعدم إمكان ذلك؛ وكل هذا لا وجود له في نفس الأمر؛ فبقي أنّ إنكاره لوقوع ذلك مجرّد أهواء وظنون.
وقال أيضاً عن عموم الحديث النبوي: (إنّ الحديث لا يمكن أن يكون صدر من رسول الله) (6)، هكذا ضَرْبَةَ لازِبٍ: لا يمكن أنْ يكون صدر .. ، دون أماراتٍ صحيحةٍ للشك، ولا أدلة على الكذب.
ويقول أيضاً: (إنّ ترك الرسول لجزء من الدين المتمثل بـ"الحديث"؛ تتناقله ألسن الفاجر والكافر والمعتوه والكذاب كيفما تشاء، ويضاف عليها وينقص منها؛ اتهام للرسول) (7)، وانظر هنا كيف أنّ الكاتب حصر رواية الحديث النبوي في أربعة أصناف من البشر؛ وهم:
1 - الفاجر.
2 - الكافر.
3 - المعتوه.
4 - الكذاب.
فجمع من أصناف الناس الذين لا يذكرهم علماء الحديث إلا في أبواب من يردُّ حديثه، فيقلب هو ذلك ليجعل علماء الحديث لا يروون سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا من طريق هؤلاء فقط، مع أنّ القسمة العقلية تقتضي وجود أصناف أخرى يحتمل أنْ تشارك في الرواية؛ مثل: الثقة الضابط، والصادق البارّ قويّ الحفظ ... الخ، والحقيقة أنَّ تصرُّفه هذا محض تجنٍّ حمل عليه سَلَس الشَّك الذي يعاني منه الكاتب، ونحن بدورنا نسأل الله تعالى أنْ يمُنّ عليه وعلى سائر مرضى المسلمين بالعافية.
- - - - - -
الحواشي:
1 - من كتاب: العيوب المنهجية في كتابات المستشرق شاخت 36.
2 - المرجع السابق.
3 - (الحديث والقرآن) 18.
4 - هو ذهاب العقل بسبب لدغ حيّةٍ أو عقرب ونحوها من ذوات السموم، انظر: لسان العرب 1/ 475.
5 - (الحديث والقرآن) 69.
6 - (الحديث والقرآن) 21.
¥