الثالث: لا دلالة في الحديث على أنَّ أبا هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - لا يداخله ما يداخل طبائع البشر من النسيان في كل شيء، وإنما الحديث -عند النظر في بقيَّة رواياته- يظهر منه أنه مخصوص بعدم نسيان كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقط، يقول الحافظ ابن حجر عن هذا الحديث أنه: (ظاهر العموم في عدم النسيان منه لكل شيء من الحديث وغيره، ووقع في رواية ابن عيينة وغيره .. "فو الذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه"، وفي رواية يونس عند مسلم "فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئاً حدثني به"، وهذا يقتضي تخصيص عدم النسيان بالحديث) (6).
ومع ذلك فقد كان أبو هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قوي الحافظة نظيف الذهن؛ (خاصة بعد أن دعا له الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالحفظ وعدم النسيان .. فكان حافظاً متقناً ضابطاً لما يرويه .. يدل على ذلك قصة امتحان مروان له، فيما رواه الحاكم عن أبى الزُّعَيْزِعَة كاتب مروان بن الحكم، أن مروان بن الحكم دعا أبا هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - فأقعدني خلف السرير، وجعل يسأله وجعلت أكتب، حتى إذا كان عند رأس الحول؛ دعا به فأقعده وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك، فما زاد ولا نقص، ولا قدَّم ولا آخَّر"، وقد نقل هذه القصة الذهبي في سير أعلام النبلاء، ثم عقَّبَ بقوله: "قلت هكذا فليكن الحفظ"، وهذه القصة نقلها أيضاً ابن حجر في الإصابة، وابن كثير في البداية، وهى تدل على قوة حفظه وإتقانه) (7).
الرابع: ليس في الحديث ما يدل على أنّ كل من خشي النسيان وأراد الحفظ شرع له أنْ يبسط ثوبه .. الخ فيكون حافظاً، وإنما هو شيء خصَّ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبا هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - -راويةُ الإسلام على رَغْمِ مَعَاطِسِ المستشرقين وأَزْلامِهِمْ، ولا أَرْغَمَ اللهُ إلا تلك الأُنُوفَ- في شكلٍ من أشكال تحقّق وَعْدِ الله تعالى بحفظ الشرع، وبناء عليه فليس الحديث بياناً لطريقة من طرق علاج النسيان لكل أحد؛ وإنما هي معجزة خاصة.
الخامس: هل يسلَّم القول بأنّ الآية فيها كلام عن أصل النسيان على وجه العموم -كما أفهمه تصرُّف "ابن قرناس"-، أم أنها تتحدث عن حالة نسيان خاص لذكر محدد.
الحقيقة أنَّ الآية في سياقها تتحدث عن نسيان مخصوص، لذكر محدد وهو أحد ثلاثة أشياء على ما ذكره الإمام القرطبي في تفسيره:
• إما الاستثناء وهو قول: (إنْ شاء الله).
• وإما قول: (وقل عسى أنْ يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً) (8).
• وإما دعاء مأمور به دون هذا التخصيص (9).
وأما النسيان الوارد في الآية؛ فالذي ذكره المفسرون في معناه يدور حول:
1 - نسيان خصوص الاستثناء إذا قال (سأفعل كذا).
2 - نسيان خصوص الاستثناء في حال اليمين تعييناً.
3 - عموم نسيان أيّ شيء.
4 - أنّه بمعنى العصيان.
5 - أنه بمعنى الترك.
6 - أنه بمعنى الغضب (10).
و الذي يجزم به فيما دلَّ عليه ظاهر الآية في سياقها: أنها تأديب من الله تبارك وتعالى لنبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ عهد إليه أن لا يجزم على ما يحدث من الأمور أنه كائن لا محالة، إلا أن يصله بمشيئة الله، لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله، وهذا هو قول الجمهور (11).
يقول شيخ المفسرين الإمام محمد بن جرير الطبري: (اختلف أهل التأويل في معناه؛ فقال بعضهم: واستثن في يمينك إذا ذكرت أنك نسيت ذلك في حال اليمين .. وقال آخرون: معناه: واذكر ربك إذا عصيت) (12)، والذي رجحه ابن جرير هو عموم معنى القول الأول، يقول رحمه الله: (وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: واذكر ربك إذا تركت ذكره، لأن أحد معاني النسيان في كلام العرب الترك) (13).
ويقول العلامة الأمين الشنقيطي: (في هذه الآية الكريمة قولان معروفان لعلماء التفسير؛ الأول: أن هذه الآية الكريمة متعلقة بما قبلها، والمعنى: أنك إن قلت سأفعل غداً كذا ونسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت بعد ذلك فقل إن شاء الله .. وهذا القول هو الظاهر، .. القول الثاني: أن الآية لا تعلق لها بما قبلها؛ أن المعنى: إذا وقع منك النسيان لشيء فاذكر الله، لأن النسيان من الشيطان) (14)، وبكلٍ قال قائل من السلف رحمهم الله.
¥