يتعلق مفهوم السُّنَّة –بشكل عام- والصحيحين -خصوصاً- عند الحداثيين بالأسس الفكرية والخلفيات الوضعية التي ينطلقون منها؛ فممارسة العقل الحداثي لسلطاته المطلقة على الساحة الفكرية والدينية جعلت المسلّمات رهن الجدال والنقد، وحوّلت كثير من النصوص المجمع على ثبوتها أو دلالتها موضع الشك والزيف، مما أدى إلى إفرازات نكراء لنتاجات شاذة، وقواعد منبوذة اعتبرها الحداثيون فتحاً في علم الحديث والنقد وعلل المتون، وتجديداً لأسس التصحيح والتضعيف، والقبول والرد.
وتفرّعت تلك القواعد على أنواع شتى منها ما هو مختص بعلم الإسناد، ومنها ما اختص بعلم المتن، نجملها بما يأتي:
أولاًَ: قواعد تختص بأسانيد الصحيحين:
وقد قامت على أربعة قواعد أساسية؛ أولها: انعدام أي دليل نقلي خالص الصحة، وثانيها: التحريف في شروط الصحة عند البخاري ومسلم، والثالثة: مساواة درجة أحاديث الصحيحين بغيرها وعدم الالتفات إلى علو شروطهما، والرابعة: الطعن في طريقة تدوين أحاديث الصحيحين. وفيما يأتي تفصيل ذلك:
القاعدة الأولى: انعدام الدليل النقلي الخالص:
فلا يؤمن التيار الحداثي بوجود دليل نقلي مصدّق، وأنه -على حد تعبير حسن حنفي-: "لا يعتمد على صدق الخبر سنداً أو متناً، وكلاهما لا يثبتان إلاَّ بالحس والعقل طبقاً لشروط التواتر، فالخبر وحده ليس حجةً ولا يثبت شيئاً على عكس ما هو سائد في الحركة السلفية المعاصرة على اعتمادها المطلق على: "قال الله"، و"قال الرَّسُول" واستشهادها بالحجج النقلية وحدها دون إعمال الحس والعقل، وكأن الخبر حجة، وكأن النقل برهان، وأسقطت العقل والواقع من الحساب في حين أنَّ العقل أساس النقل" ([30] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=41#_ftn30))، فأسقط حنفي بذلك –وبكل بساطة- علوم الإسناد والجرح والتعديل والعلل.
ثم تقول خالدة سعيد: " ... فالحقيقة عند رائد؛ كجبران أو طه حسين لا تلتمس بالنقل، بل تلتمس بالتأمل والاستبصار عند جبران، وبالبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين، وكذلك تلتمس بوضوح لدى عدد كبير من كتاب تلك المرحلة، على اختلاف اختصاصاتهم واتجاهاتهم فهماً للإنسان بوصفه المخول بالتحكم في مصيره وفي صنع التاريخ" ([31] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=41#_ftn31)).
وقد توسع بهم الأمر إلى نقد علوم الحديث الكاشفة عن صحة الأحاديث وضعفها، واضعين أنفسهم أوصياء عليها، مشككين في قدرات تلك العلوم على العمل بمقتضاها، مقترحين إعادة النظر فيها والعمل على أساس تعديلها، هكذا دون أسس علمية محضة بل قياساً على ما يعايشه العالم الإسلامي من صراع الحضارات ([32] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=41#_ftn32)).
وهكذا أسقطوا أي دليل نقلي، وحمّلوا العقل والتجربة مهمة البحث عن الحقيقة، ونزعوا عن هذه الأمة أهم ما ميزها الله به عن الأمم؛ كعلم الإسناد، ومرجعية الأصول، ومنهج الاتباع، والذي يُعد –حتى حسب منطقهم- على درجة غير مسبوقة من العلم والبحث والتدقيق، وحقلاً زاخراً بالعلوم العقلية والمنطقية، وهذا وحده يُثبت أن العقل وحده لا يستطيع أن يحكم على الأشياء والأفكار؛ لأن المستندات العقلية التي يتبعها الحداثيون هي في الأصل منقولة لديهم، فهم في دوامة النقل شاؤوا أم أبوا.
القاعدة الثانية: تحريف شروط الصحة في البخاري ومسلم:
لقد أبعد كثير من الحداثيين النجعة في التعامل مع أحاديث الصحيحين، حتى بلغ فيهم الأمر إلى أن يساووا نصوصهما بأي خطاب بشري كما فعل علي حرب، وأركون، وحنفي، وشحرور، ومنهم من ذهب مذهباً منكراً في تأسيس مشروع للتوفيق بين التُّراث والحداثة، كما فعل الجابري؛ ففي معرض حديثه عن الحديث الصحيح ذكر أنَّ "كتب الحديث الصحيحة، كصحيحي البخاري ومسلم إنما هي صحيحة بالنسبة للشروط التي وضعها أصحابها لقبول الحديث، الحديث الصحيح ليس صحيحاً في نفسه بالضرورة ... وإنما هو صحيح بمعنى أنه يستوفي الشروط التي اشترطها جامع الحديث كالبخاري ومسلم" ([33] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=41#_ftn33)). ولا يُدرى أيُّ عاقل يُسلّم بذلك، إذ لم يعبأ الجابري بتلقي الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً للصحيحين بالقبول ما يغني عن بيان قيمة هذين الكتابين
¥