الشيخ أحمد شاكر: 1/ 27، 28)، وكلامهم - رحمهم الله - ظاهر، ولعله هو الراجح.
وهذا لا يؤثر في صحة الحديث:
- فالوجه الأول صحيح بلا إشكال، وهو في صحيح البخاري، وقد أعله الشاذكوني بتدليس أبي إسحاق، فأسند الحاكم عن علي بن المديني قوله: «وكان زهير وإسرائيل يقولان عن أبي إسحاق إنه كان يقول: ليس أبو عبيدة حدثنا ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستنجاء بالأحجار الثلاثة»، ثم قال الحاكم: (قال ابن الشاذكوني: «ما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا ولا أخفى، قال: أبو عبيدة لم يحدثني ولكن عبد الرحمن عن فلان عن فلان، ولم يقل: حدثني، فجاز الحديث وسار») (معرفة علوم الحديث، ص350، 351 ط. السلوم)، وأجيب عليه من وجوه:
أحدها: أن البخاري أتبع تلك الرواية برواية معلقة عن أبي إسحاق مصرحًا بالسماع من عبد الرحمن بن الأسود، وقد نوزع في هذا، للِّين الواقع في الرواية المعلقة، قال البيهقي: «وذِكْرُ إبراهيم بن يوسف سماعه لا يجعله متصلاً» ثم أسند عن يحيى بن معين تضعيفه لإبراهيم بن يوسف (الخلافيات:
2/ 92، 93).
ثانيها: أن يحيى بن سعيد القطان روى الحديث عن زهير، قال الإسماعيلي: «والقطان لا يرضى أن يأخذ عن زهير عن أبي إسحاق ما ليس بسماع لأبي إسحاق» (الإمام: 2/ 570)، وقد يُنازع في هذا أيضًا، وإن قال ابن حجر بعقب ذلك: «وكأنه عرف ذلك بالاستقراء من صنيع القطان أو بالتصريح من قوله» (فتح الباري: 1/ 258) = فإن ما اشتهر عن القطان أنه لا يأخذ من مشايخه إلا مسموع حديثهم من شيوخهم.
ثالثها - وهو كافٍ في ردِّ علة التدليس إن شاء الله -: أن لفظ أبي إسحاق يقوم مقام التصريح بالتحديث، وأن احتمال التدليس غير ظاهر، قال ابن دقيق العيد: «فهو محتمل، لكنه ليس بظاهر من اللفظ» (الإمام: 2/ 569)، وقال ابن حجر: «قوله: (ليس أبو عبيدة) أي: ابن عبد الله بن مسعود، وقوله: (ذكره) أي: لي، (ولكن عبد الرحمن بن الأسود) أي: هو الذي ذكره لي، بدليل قوله في الرواية الآتية المعلقة: حدثني عبد الرحمن»، ورواية أبي داود الطيالسي عن زهير بلفظ: (ليس أبو عبيدة حدثني) وهذا ما نقله ابن المديني من الرواية - كما سبق -، والكرابيسي في المدلسين - كما نقله عنه العيني في عمدة القاري (2/ 302) -، وعليه فيكون المراد: ولكن عبد الرحمن بن الأسود حدثني، قال العيني بعقب ذلك: «وهذا دليل واضح أنه رواه عن عبد الرحمن بن الأسود سماعًا، فافهم».
رابعها: أن الشاذكوني الذي أعلَّ الحديث بالتدليس ضعيف جدًّا، ورمي بالوضع، ذكر هذا الشيخُ أبو إسحاق الحويني (بذل الإحسان: 1/ 371)، وهذا صحيح، لكنَّ هذا قولٌ له لا رواية، وكلامه محتمل في وقوع التدليس؛ فوجب الرد عليه، والعلماء والحفاظ ردُّوا على كلامه ولم يذكروا ضعفه مع أنه كان متقرِّرًا عندهم.
تنبيه: في نقل ابن المديني نسبةُ رواية أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن أبيه = إلى زهير وإسرائيل، ولم أرَ لزهير روايةً عن أبي إسحاق على هذا الوجه، وإن صحت فهي دليل آخر على أنه قد كان الوجهان عند أبي إسحاق، وحدّث بهما.
- والوجه الثاني للحديث عن أبي إسحاق (أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه) صحيحٌ أيضًا بحكم جماعة من الأئمة الحفاظ النقاد، وإن لم يسمع أبو عبيدة من أبيه، فقد صحح روايته عنه أو قواها ابن المديني ويعقوب بن شيبة والنسائي والطحاوي والدارقطني وابن تيمية وابن رجب وغيرهم، وليس هذا موضع البسط في هذه الجزئية.
للفائدة: انظر هنا: http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=44635
تنبيه: أطال بعض المتأخرين والمعاصرين في الرد على الترمذي - رحمه الله - في قوله: «وهذا حديث فيه اضطراب»، وحاكموه في ذلك إلى مفهوم المتأخرين للاضطراب، وأنه لا يُحكم بالاضطراب إلا عند استواء الأوجه عن الراوي، وتعذر الجمع بين الأوجه. لكن الترمذي - رحمه الله - على أنه قال عن الحديث: «فيه اضطراب» = قال: «وأصح شيء في هذا عندي حديث إسرائيل وقيس عن أبي إسحاق»، فهو لا يرى الأوجه مستويةً عن أبي إسحاق، وقال بالاضطراب مع ذلك، وهذا يُبيِّن أن مراد الترمذي بالاضطراب ليس الاضطراب الذي اصطلح عليه المتأخرون، وأنه قصد الاختلافَ الكثير والرواياتِ المتعددة والأوجُهَ المختلفة، ومثلُ ذلك قول العقيلي: «والحديث من حديث أبي إسحاق مضطرب».
تنبيهٌ آخر: رجَّح بعض المعاصرين طريق زهير على طريق إسرائيل عن أبي إسحاق؛ لأن طريق زهير متصلة، وطريق إسرائيل منقطعة!
وعلى التسليم بانقطاع طريق إسرائيل (أبي عبيدة عن أبيه)، فإنه كون السند متصلاً لا يرجِّحه على السند المنقطع، وليس من قرائن ترجيح أحد الوجهين المختلفين كونه متصلاً، وهذا ظاهر، ولو رجحنا كل سند متصل على الأسانيد المنقطعة، لَمَا حُكم على حديثٍ فيه اختلاف في الإسناد بين اتصالٍ وانقطاعٍ بالانقطاع، ولَصُحِّحت أحاديث كثيرة معلولة بانقطاعٍ في أسانيدها، وهذا مخالفٌ لِمَا استفاض من ترجيح رواياتٍ منقطعة في أحاديثَ على رواياتٍ متصلة. وصنيعهم هذا يشبه قول من قال: إن الحكم للواصل عند تعارض الوصل والإرسال، وهو مردود بلا إشكال.
هذا؛ والله أعلم وأجلُّ وأحكم. وهذا جهد المقل، وعمل الفقير الضعيف، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده وله الحمد والفضل والمنة على ما وفّق وسدّد، وإن كان فيه من خطإٍ فمن نفسي المقصرة والشيطان. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
¥