عاد الشيخ بوعبدالله إلى (المناصرة)، ومنها انتقل إلى (بطيوة)، وفتح الله عليه، ووفَّقَه، فبنى بها زاوية وشرع في التعليم والتدريس للكِبار، وتحفيظ القرآن الكريم للأطفال الصِّغار، ووَفَدَ عليه التلاميذ والطلبة من مختلف أنحاء الوطن، مِنْ (مليانة) شرقًا، إلى (الغَزَوات) غربًا، ومن (مَنْداس) إلى (مازونة)، وتخرَّجت على أيديه أجيال من الطلبة والعلماء والعارفين، خاصَّة أهالي (مليانة) الذين لهم الحظ الأوفر عنده.
وقد زاره في (بطيوة) الشيخ عبد الحميد بن باديس، وثلَّة من العلماء والصلحاء، وتحاوروا معه طويلاً، إلى أن وقفَ الشيخُ عبد الحميد بن باديس، وقال لهم: «كفى، الرَّجلُ عَالِمٌ، الرَّجلُ عالمٌ، الرَّجلُ عالِمٌ»، هكذا كرَّرها ثلاث مرَّات.
وقد أنشد الشيخ بوعبدالله قصيدة عصماء بليغة في هذه الزيارة الميمونة، نشرها الشيخ باديس في مجلة: (الشِّهاب)، على اثني عشر مقطعًا، في اثني عشر عددًا لبلاغتها.
وعندما خرج الشيخ البشير الإبراهيمي مِنْ منفاه في مدينة (أفلو)، أنشد فيه قصيدةً عصماء، وأرسلَها إليه، وبِما أنَّ (البصائر) كانت متوَقِّفَة، فلم ينشرها الشيخ البشير للأسف الشديد، ولا أحد يعرف مصدرها الآن.
وقد أكَّد لنا الشيخ (امْحَمَّد بن داود)، تلميذ الشيخ بوعبدالله الذي لازمه، وعلَّم في زاويته بـ: (بطيوة) اثني عشر عامًا، بأنَّ شيخه بوعبدالله له تراثٌ فكريٌّ وأدبيٌّ كبير، ووعَدَنا بالاطِّلاع عليه، والسعي في دراسته ونشره، وتمنَّى أن يتمَّ ذلك لإبراز دور العلماء، أو (جنود الخفاء)، في نشر العلم والفكر، والثقافة والتربية، والتعليم والأخلاق الفاضلة والطاهرة.
2) ميلاد الشيخ المهدي وتفقُّهه:
في هذا الجوِّ العلمي والفكريِّ والأدبيِّ، وفي عام 1907م وُلِدَ ونشأ الشيخ المهدي البوعبدلي، وتتلمذَ على أبيه مدَّة من الزمن، ثمَّ شدَّ الرِّحال إلى (مازونة)، وأخيرًا إلى (الزيتونة) في تونس، خلال عقد الثلاثينات، عِوَض (القرويِّين) بفاس.
وكان من ضمن رفاقه هناك الشيخ أحمد حماني، والشيخ علي المغربي، وآخرون كثيرون، في (الجامعة الزيتونية) التي كانت قِبلةَ للطلبة الجزائريين، بعد أنْ سُدَّت في وجوههم هنا بالجزائر أبواب العلم والمعرفة والتعليم، من طرف الإدارة الفرنسية الاستعمارية الخبيثة، والماكرة والحقودة.
و (الزيتونة) كما يعرف الجميع، كانت الدِّراسة فيها حيوِيَّة ونشيطة ومُنفتِحة، على عكس (القروِيِّين) بفاس، التي تُركِّزُ أساسًا على الفقهيَّات والشريعة، ولهذا اختار الشيخ المهدي تونس و (الزيتونة) البعيدة عنه، بدل فاس و (القروِيِّين) القريبة منه، وشذَّ على كثير من مُعاصريه في المنطقة، وهناك تثقَّف الشيخ المهدي، وطعَّمَ ثقافتَه بالدِّراسات الأدبية والفلسفية، وتعرَّف على عدَدٍ كبير من الرِّفاق والزُّملاء، الذين سيُصبِحون مثله علماء وأدباء وفقهاء وشعراء ومفكرين.
وعندما عاد الشيخ (المهدي) إلى الجزائر، اشتغل (مُفتِيًا) في (بِجاية) سنواتٍ طويلة، بفضل تفقُّهه وتضلُّعه في العلوم الشرعية، وتمكَّن مِن جمع ثروة هائلة من المخطوطات والرسائل والدِّراسات، مِنْ ضمنها: مكتبة (الباي القُلِّي)، التي كانت في حوزة إحدى العائلات هناك.
ومِنْ (بجاية) انتقل الشيخ (المهدي) إلى مدينة (الشلف) يُمارس نفس الوظيفة (مفتِيًا) إلى ما بعد اندلاع (ثورة أول نوفمبر 1954م)، ليلتجئَ خلالها إلى (المغرب الأقصى)، حتى استعادة الاستقلال الوطني، عام 1962م.
وبعد وفاة والده الشيخ (بوعبدالله)، يوم 4نوفمبر 1954م، خلفه في رئاسة الزاوية والطريقة الشيخ (عبد البر) حتى وفاته عام 1974م بالمدينة المنورة، فخلفه أخوه الشيخ (المهدي) [المُتحَدَّث عنه] في منصبه، واستمرَّت الزاوية في أداء رسالتها الدينية والتربويَّة، حيث يتِمُّ تحفيظ القرآن الكريم في جناح خاص، وتعليم العلوم العربية والشرعية واللغوية في جناح آخر للطلبة المسافرين، الذين يتكفَّل بهم وبِإطعامهم سُكَّان القرية، صباحًا ومساءً، حسب العادة الموروثة منذ تأسيس الزاوية، وقد أكَّدَ لنا الشيخ (المهدي) نفسه (رحمه الله) بعد وفاة شقيقه الشيخ (عبد البر) بأنه مضطرٌّ للتَّفرُّغ للزاوية، حتى تستمِرَّ في رسالتها الدينية والتربوية.
3) الشيخ المهدي الدَّارسُ والباحِث:
¥