تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مرثية محمود سامي البارودي الدالية في زوجته، تعد من عيون الشعر العربي الحديث، ولاقت استحساناً في أوساط الشعراء والنقاد، وصادفت شهرةً في الأوساط الأدبية؛ لأنها تدفقت من شعور صادق، وعبر بها الشاعر عن معاناةٍ مؤلمة صهرت شعوره وعاطفته، فأتت أبياتها تحمل دفق الإحساس الذي عصرته الفاجعة، وعمق الجرح النازف الذي ولدته المصيبة.

مناسبة القصيدة

أنشأ القصيدة حينما بلغه وهو في سيلان (سرنديب) نبأ وفاة زوجته (عديلة بنت أحمد يَكَن باشا) في مصر، وكانت السلطات الإنجليزية قد نفته إلى هذه الجزيرة مع أحمد عرابي وأربعة من قادة الثورة العرابية بعد إخفاقها في شهر صفر من عام ألفٍ وثلاث مئة من الهجرة (1882م)، وتوفيت زوجته بعد سنةٍ من نفيه.

مفردات القصيدة والمعاني المستفادة

القصيدة طويلة تبلغ سبعة وستين بيتاً، وهي في ديوانه يقول منها:

أَيَدَ المَنُونِ! قدَحْت أيَّ زِنادِ =وأطرْتِ أيَّةَ شعلةٍ بفؤادي (1)

أوهنتِ عزمي وهو حملةُ فيلقٍ =وحَطَمْتِ عودي وهو رمحُ طِرَادِ (2)

لم أدر هل خطبٌ ألمَّ بساحتي =فأناخَ، أم سهمٌ أصابَ سَوَادِي (3)

أقذى العيونَ فأسبلتْ بمدامعٍ =تجري على الخدين كالْفِرْصَادِ (4)

ما كنت أحسَبُنِي أُراعُ لحادثٍ =حتى مُنيِتُ به فأوهنَ آدِي (5)

أبلتنِيَ الحسراتُ حتى لم يكدْ =جسمي يلوحُ لأعينِ العُوَّادِ (6)

أستنجدُ الزفراتِ وهي لوافحٌ =وأُسَفِّهُ العبراتِ وهي بوادِي (7)

لا لوعتي تدعُ الفؤادَ، ولا يدِي =تَقْوى على ردِّ الحبيبِ الغادي (8)

1.

ــــــــــــــــــ

الهمزة في (أيد) للنداء، وهي موضوعة في الأصل لنداء القريب وذلك لقرب زوجته من نفسه

. المنون: المنية (أو الموت)

2. الفيلق: الجيش، أو القطعة الكبيرة منه. حطمت: كسرت.

3. خطب: مصيبة. ألم: نزل. سوادي: شخصي: شخصي أو قلبي.

4. أقذى العيون: جعل فيها القذى، وهو ما يسقط في العين فيهيجها ويسيل دمعها. الفِرصاد: التوت الأحمر خاصة. والمراد به اللون الأحمر عامة، يريد أم دمعه ينزل دماً من فرط ألمه ووجده.

5. أراع: أخاف. آدي: قوتي.

6. يلوح: يظهر. العواد: الذين يزورون المريض.

7. استنجد الزفرات: أستعين بها على تخفيف مصابي. الزفرات: مفردها زفرة، وهي إخراج النفس بصوت مسموع ممدود. العبرات: مفردها عبرة وهي: الدمعة قبل أن تفيض، أو تردد البكاء في الصدر. أو الحزن بلا بكاء. بوادي: ظاهرة.

8. الغادي: الذاهب من غير رجعة.

ويخلص بعد ذلك إلى رسم النتائج المؤلمة التي ترتبت على فقد زوجته، ومظاهر الحزن التي يطالعها وتطالعه في الصباح والمساء، بل في كل ساعةٍ من ساعات الليل والنهار، ولا سيما حين يرى أولادهما معاً قرحى العيون، رواجف الأكباد، قد برح بهم الألم، واعتصر الحزن العميق قلوبهم.

ويعاتب الدهر ـ على عادة الشعراء ـ فيما نزل به من مصيبة، والدهر زمن من الأزمان لا ينفع ولا يضر، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبه فيحديث صحيح (9).

يا دهرُ! فيم فجعتني بحليلةٍ! =كانت خُلاصةَ عُدَّتي وعَتَادِي (10)

إنْ كنْتَ لم ترحمْ ضنايَ لبعدِها =أفَلا رحمْتَ من الأسى أولادِي (11)

أفرَدْتَهُنَّ فلم ينمْنَ توجُّعاً =قرحى العيون رواجفَ الأكبادِ

ألقيْنَ دُرَّ عُقُودِهن، وصغن من =دُرِّ الدموع قلائَد الأجيادِ (12)

يبكينَ من ولهٍ فراقَ حَفيَّةٍ =كانت لهن كثيرةَ الإسعادِ (13)

فخدودهنَّ من الدموع ندِيةٌ =وقلوبُهنَّ من الهمومِ صوادِي (14)

أسليلةَ القمرين! أيُّ فجيعةٍ =حَلَّتْ لفقدكِ بين هذا النادي؟! (15

أعْزِزْ عليَّ بأن أراكِ رهينةً =في جوفِ أغبرَ قاتٍِ الأسدادِ (16)

أو أن تَبِيِني عن قرارةِ منزلٍ =كنتِ الضياءَ له بكلِّ سوادِ (17)

لو كان هذا الدهرُ يقبل فديةً =بالنفسِ عنكِ؛ لكنتُ أولَ فادِي

أو كان يرهبُ صولةً من فاتكٍ =لفعلتُ فِعْلَ الحارثِ بنِ عُبَاِد (18)

لكنها الأقدارُ ليس بناجعٍ =فيها سوى التسليم والإخلادِ (19)

فبأيِّ مقدرةٍ أردُّ يد الأسى =عني وقد ملكتُ عِنَانَ رشادي (20)

أفأستعينُ الصبرَ وهو قساوةٌ =أم أصحبُ السُّلْوَانَ وهو تَعَادِي؟! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

9. انظر النهي عن سب الدهر في صحيح البخاري: (كتاب التفسير) 6/ 41 10. حليلة: زوجة.

11. ضناي: ضَنى يضنى ضنى فهو ضنيٌَ وضنِ: مرض مرضاً مخامراً كلما ظن برؤه نكس. واضناه المرض: أوجعه. والمضاناة: المعاناة. الأسى: الحزن.

12. الأجياد: مفردها جيد، وهو العتق.

13. الوله: ذهاب العقل حزناً، أو حزن مع اشتياق.

14. صوادي: مفردها صادية، وهي العطشى، يريد أن قلوبهن محترقة بسبب الهموم والأحزان.

15. القمران: أراد بهما والديها.

16. الشطر الثاني كناية عن القبر.

17. تبيني من البين: البعد والفراق.

18. الحارث بن عُباد من سادات الجاهلية وشعرائها وشجعانها ومن ذوي الرأي فيها، اعتزل حرب البسوس التي وقعت بين بكر وتغلب ابني وائل، فلما قتل المهلهل ابنه بجيراً قال قصيدته اللامية المشهورة (قربا مربط النعامة مني)، ثم قرب فرسه فجز ناصيتها وقطع ذنبها، وآلى أن يأخذ بثأره، فخاض الحرب، فرجحت كفة قومه بكر على تغلب، وأثخن في التغلبيين، وقتل منهم عدداً كبيراً، وأسر المهلهل، ثم جز ناصيته وأطلقه.

19. ناجع: نافع.

20. العِنان: بكسر العين: مقود الفرس. وبفتحها: السحاب

ثم استعرض الشاعر بعض الأمم والممالك الزائلة، وما حصل لها من الأحداث والفناء، مستلهماً منها العبرة لمصيبته والسلوى لفاجعته.

وختم القصيدة مذكراً بأن الموت نهاية كل حي في هذا الوجود.

فعلام يخشى المرءُ صرعةَ يومِهِ =أو ليس أن حياتَهُ لنفَادِ؟!

تَعِسَ امرؤٌ نسي المعادَ، وما درى =أن المَنوُنَ إليه بالمرصادِ

ثم دعا الله تعالى لها بالرحمة والغفران:

وأسأله مغفرةً لمن حلَّ الثرى =بالأمسِ، فهو مجيبُ كُلِّ منادِي

والقصيدة في حاجةٍ إلى وقفة فنية لاستجلاء معانيها والكشف عن محاسنها.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير