[السلم في العصر الجاهلي]
ـ[ضاد]ــــــــ[30 - 08 - 2008, 07:01 م]ـ
يقول زهير بن أبي سلمى
فَأَقْسَمْتُ بِالْبَيْتِ الذِّي طَافَ حَوْلَهُ =رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهُمِ
يَمِيناً لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وُجِدْتُمَا = عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيْلٍ وَمُبْرَمِ
تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَذُبْيَانَ بَعْدَمَا = تَفَانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشَمِ
وَقَدْ قُلْتُمَا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعاً = بِمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ القَوْلِ نَسْلَمِ
فَأَصْبَحْتُمَا مِنْهَا عَلَى خَيْرِ مَوْطِنٍ = بَعِيدَيْنِ فِيْهَا مِنْ عُقُوقٍ وَمَأْثَمِ
تبدأ الأبيات بقسم بالبيت الذي هو الكعبة, وهو الذي كانت العرب قبل الإسلام تقدسه وتحج إليه وتطوف به. وقد استرسل زهير في تعريف هذا البيت فذكر العبادة التي تقام فيه وهي الطواف (وقد ذكر القرآن كيفية هذه العبادة في قوله تعالى [وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ?] الأتفال 35) وذكر أن من بنى هذا البيت رجال من قبيلتين هما قريش وجرهم, وجرهم هي قبيلة قديمة تزوج فيهم إسماعيل عليه السلام فغلبوا على الكعبة والحرم بعد وفاته, ثم استولى عليها من بعدهم خزاعة إلى أن عادت لقريش, والشاعر بذكر القبيلتين يربط ماضي البيت بحاضره لإبراز قدمه وعظم شأنه, وبذلك عظم هذا القسم الذي هو أن المخاطبيْن نعم السيدان هما (السيدان هما هرم بن سنان والحارث بن عوف) في كل حال كانا فيها, في حال الضعف (سحيل: المفتول على قوة واحدة) وفي حال القوة (مبرم: المفتول على قوتين أو أكثر) , وقصد بذلك أن الرجلين مستوفيان لخلال الشرف في حال يحتاج فيها إلى ممارسة الشدائد وفي حال يفتقر فيها إلى معاناة النوائب. وهاذان الرجلان استحقا هذا الوصف والمديح لما فعلاه حيث أتما الصلح بين ذبيان وعبس وتحملا أعباء ديات القتلى. فأقاما السلم بعد الحرب, وهذا الذي عظمهما في عين زهير حتى قال فيهما معلقته الرائعة. وهو هنا يبرز جانبا من جوانب الحياة الجاهلية, جانب الذين يسعون إلى السلم وتحمل أعبائه لإنقاذ القبائل من التناحر والفناء, والشاعر يشيد بذلك في زمن كانت الإشادة والفخار بالقتل والقوة والسطوة ومعلقة عمرو بن كلثوم وشعر عنترة بن شداد لخير أنموذج من ذلك المجتمع المتناحر المتقاتل المتثائر, وحين يبرز من يسعى إلى السلم وحقن الأرواح والدماء فيجد من يمجد فعله ويخلده في معلقة كاملة من أنفس ما قالت العرب, فإن هذا لا ينبغي أن يمر دون أن يتناول بالشرح والتحليل لإبراز قيمة السلم والحكمة في ذلك الزمن, زمن البربرية.
يقول الشاعر أن الرجلين العظيمين تداركا قبيلتي عبس وذبيان من بعد أن كاد يفني أحدهما الآخر, فتداركا ما بقي منهما بإقامة السلم وتحمل الديات. وقوله (ودقوا بينهم عطر منشم) فلذلك قصة, فقد قيل أنه عطر امرأة اسمها منشم اشترى منها بعضهم عطرا وتحالفوا على عدو وتعاقدوا وجعلوا كل واحد منهم يغمس يده في العطر ثم قاتلوا عدوهم فقُتلوا جميعا, فتطير العرب بعطر منشم وسار المثل به. وقيل أن منشما كان عطارا يشترى منه حنوط الموتى فسار المثل بعطره.
وقد بذل الرجلان من أجل هذا السلم المال والقول المعروف أي السعي بالصلح بين القبيلتين, وقد فعلا ذلك عن دراية بقيمة هذا السلم وهذا الصلح لأنه ليس فيه سلامة القبيلتين المتناحرتين فقط, بل سلامة القبائل الأخرى أن لا تصيبها شرارة الحرب والثأر. فنالا ما أرادا وباتا على خير موطن, لا هما قاطعا رحم ولا هما آثمان, ونالا العظمة والمكانة العلياء من الشرف. ثم يدعو الشاعر لهما بالهداية (هديتما) ويبرر المكانة التي وصل إليها السيدان بأن من يجد كنزا من المجد فيستبحه أي يستأصله ويأخذه وينله, فإنه سيعظم بين العظام والكرام لا محالة.
للتعليق والإضافة
ـ[عامر مشيش]ــــــــ[30 - 08 - 2008, 10:08 م]ـ
وتلك كانت حرب داحس والغبراء
عافاك الله أخي ضاد على التقاط هذه الدرة الجميلة من تاريخ الجاهلية