[00 برزخ معلمة 00]
ـ[ماجد سليمان]ــــــــ[18 - 08 - 2008, 11:06 ص]ـ
بَرزَخُ مُعَلِّمَة
في ناحيةٍ من المدينة، تمر سيارة من نوع (فان) قد أكل الصدأ أطرافها، تسير على ازفلتٍ امتلأ بالشقوق، والحفر، والطريق لا يتسع إلا لسيارة، ونصف السيارة، كانت هذه السيارة تقل مجموعة من المعلمات من داخل المدينة الحزينة إلى 200 كيلو خارجها بحجة التعليم.
"منال" بكالوريوس e، مطلقة وأم لطفلين.
"سمر" دبلوم حاسب، عانس فوق الثالث الثلاثين ربيعا.
"وضحى" معهد معلمات، عُقد عليها ثم طُلقت بسبب التدريس وهي الآن عانس فوق الواحد والثلاثين ربيعاً.
الطريق طويل، جِمَالٌ لا تكفُّ عن عبوره كل دقيقة، وسائقين متهورين، وأوديةٌ تنهال عليه من كل جانب، وسائقٌ يأخذه النعاس بين الفَينةِ والفَينة، وشبح الموت يلوح تارة فتارة، وكل معلمة تقبض بيدها على قلبها الغض حتى لا يقع من الرعب.
تقف سيارة (الفان) المتهالكة أمام باب المدرسة المنخلع، تنزل النسوة وكل واحدةٍ منهنَّ قد أكل طائر الخوف من جسدها طِوال الطريق حتى شبع.
الواجهة الرئيسية للمدرسة الحكومية عبارةٌ عن جُدرٍ متصدعةٍ من الدرجة الأولى، وعناكب ترمق الواقفين بجانب المدرسة، وجرذانٌ تتقافز فوق السور، وقططٌ سائبة تجوب الفناء، وتستريح في (مقصف) المدرسة.
تدوس كل معلمة منهنَّ بكعبها المخمليّ بلاط المدرسة المتهشم، ويلَجنَ وُلُوجَ المساجين إلى السجون المظلمة.
0000000
في غرفة المعلمات، آمالٌ مقذوفة في تابوت اليأس، وهموم ترفرف على رأس كل واحدة منهنَّ، وشكاوى غصَّ بها حلق جهاز الفاكس المهترئ، مبعوثة للمسئولين بطلب الشفاعة في النقل إلى مقر سكن كل واحدة منهن، وأوراق مكدَّسةٌ من يأس العمل، وزهرة شبابهن الأنثوي تذبل يوماً بعد يوم.
تدخل مديرة المدرسة عابسة الوجه، محدقةً في وجه كل واحدة منهن:
- استمارات النقل المزعوم وصلت.
تقفز منال كحمامة رفعت جناحيها للولوج في جوف السماء:
- حقاً!!!
تردف سمر:
- لعله الفرج، لعله الفرج.
بدأت كل واحدة بتعبئة الاستمارة الخاصة بها .. هدوء يملأ غرفة المعلمات .. العناكب في سقف المدرسة تجمهرت على هذا الحدث العجيب، وكل معلمة تكتب الرغبات، والأمنيات، والتوقعات، وكلها معقودة بحبل الأمل الضعيف.
وبعد زمن قصير جمعت مديرة المدرسة استمارات النقل المزعوم لدى وزارة التربية، ليتم إدخالها آليا في جهاز الحاسوب العتيق، الذي امتلأ جوفه من الغبار والأتربة، ومن ثم تبعث إلى مقر الإدارة في مدينة أخرى تبعد عن المدرسة المنسية 180 كيلوا.
0000000
كالعادة تنطلق سيارة (الفان) عائدة بهنَّ إلى المدينة 200 كيلوا أيضا ليكون المجموع 400 كيلوا يوميا تقطعها هؤلاء النسوة ذهاباً وإياباً، وخفافيش القلق في كل مرَّة تشيعنهنَّ إلى حيث المجهول.
يرن هاتف سمر، ليشع اسم أمها المتصلة عبر الشاشة:
- أهلا أمي.
- هل بقي الكثير يا ابنتي؟.
- نحن للتو تحركنا من المدرسة يا أمي.
- هل ستتأخرين كل العادة يا ابنتي؟.
مَطَّت شفتيها قليلا ثم تأففت بشدة ثم أجابت:
- وهل هناك غير هذه الحكاية التي تمارسنا كل يوم.
- تَصِلِين على خير بإذن الله.
- إن شاء الله.
بينما تجلس إلى جانبها الأيسر زميلتها "منال" وقد تصاعد شخيرها الهادئ وهي تغط في النوم ليقصر عليها الطريق.
0000000
بعد أن أحكم الظلام قبضته على المدينة، وبعد أن أتم الإمام تسليمته لصلاة العشاء، شدا صوت هاتف المعلمة "منال" المقذوف على سريرها الوردي، بينما كانت هي خاشعة في صلاتها حتى ارتفع صوته، وأفسد خشوعها، فما أن أتمت الصلاة حتى خَرَس الصوت، نظرت إلى شاشة الهاتف فإذا "مكالمة لم يرد عليها" فتحت فإذا بالمتصل زميلتها "سمر"، عاودت الاتصال بها:
- ألو .. أهلا سمر، مالأمر؟!
- لقد اتصلت بكِ قبل ثواني أين كنتِ؟
- أصلِّي، وبالكاد استطعت الخشوع في صلاتي من صوت الهاتف.
- لدي موضوع مهم، مهم، مهم!!!.
- سمر، لقد قلقت، ما الخبر؟!
- هنالك صديق لأخي أحمد عرض علينا عرض مغري.
- وما العرض؟
- وعدنا بأنه سيتسبب في نقلي إلى المدرسة التي أرغب النقل إليها وقد تكون بجانب منزلنا!!
- معقوووووووووووول!!!!
- نعم، هل ترغبين في الدخول في هذا العرض؟
- لكن كيف بإمكانه فعل هذا؟
- قال لأخي: ادفعوا لي 20 ألف ريال واختاروا المدرسة التي تريدون النقل إليها.
¥