تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

سيرا - على اسم الله - *في نهار ضاح، وفضاء منساح، ضاحك الأَسرَّة وضَّاح، وتخلَّلا الأحياءَ؛ فستجدان لاسم مَنْ تَنْتَجعانِه ذكراً ذائعاً في الأفواه، وثناءً شائعاً على الشفاه، وأثراً أزكى نماءً وأبقى بركةً على الأرض من أثر الغمام المنهل، فإذا مَسّكُما الملالُ أو غشّى مطيّكما الكلالُ فاحدوا بذكراه ينبعث النشاط، وينتشر الاغتباط، وتَغْنيا بها عن حمل الزاد، ومَلءِ المزاد، وتأمنا غوْل الغوائل، من أفناء دراج ونائل [13].

سيرا -روحي فداؤكما من رضيعي همة، وسليلي منجبة من هذه الأمّة-حتى تدفعا في مَسِيِّ خامسٍ، له يوم الترحل خامس، [14] إلى الوادي الذي طرّز جوانبه آذار، وخلع عليه الصانع البديع من حَلْي الترصيع، وحلل التفويف [15] والتوشيع ما تاه به على الأودية؛ فخلع العذار.

وأتِيا العُدوة الدنيا فثمَّ المنتجعَ والمرَاد، وثمّ المطلب والمراد، وثمّ محلة الصدق التي لا يصدر عنها الوُرّاد، وثمّ مناخ المطايا على حُلاّل الحق، وجيرة الصدق، وعُشراء الخلود، الذين محا الموت ما بينهم من حدود، اهتفا فيها بسكان المقابر عني:

أوَ ما استقلَّت بالسميع الواعي ما للمقابر لا تُجيب ii الداعي

وخصّا القبر الذي تضمّن الواعيَ السميع، والواحدَ الذي بذّ الجميع، فقولا له عني:

يا قبر، عزَّ على دفينك الصبر، وتعاصى كسرُ القلوب الحزينة على من فيك أن يُقابَل بالجبر، ورجع الجدال إلى الاعتدال بين القائلين بالاختيار والقائلين بالجبر.

يا قبر، ما أقدر الله أن يطويَ عَلماً ملأ الدنيا في شبر!

يا قبر، ما عهدنا قبلك رمساً، وارى شمساً، ولا مساحة، تكال بأصابع الراحة، ثم تلتهم فلكاً دائراً، وتحبس كوكباً سائراً.

يا قبر، قد فصل بيننا وبينك خط التواء لا خط استواء، فالقريب منك والبعيد على السواء.

يا قبر، أتدري من حويت؟ وعلى أي الجواهر احتويت؟ إنك احتويت على أمة، في رمّة، وعلى عالَم في واحد.

يا قبر، أيدري مَنْ خطّك، وقاربَ شطّك، أي بحر ستضُم حافتاك؟ وأي معدن ستزن كفتاك؟ وأيَّ ضرغامةِ غابٍ ستحتبل كفتاك؟ وأي شيخٍ كشيخك؟ وأي فتى كفتاك؟ فويح الحافرين ماذا أودعوا فيك حين أودعوا؟ وويح المشيعين ماذا شيعوا إليك يوم شيّعوا؟ ومن ذا ودّعوا منك إذ ودّعوا؟ إنهم لا يدرون أنهم أودعوا بنَّاء أجيال في حفرة، وودَّعوا عامر أعمال بقفرة، وشيعوا خِدَن أسفارٍ، وطليعة استنفارٍ إلى آخر سَفْرة.

يا قبر، لا نستسقي لك كل وطفاء سكوب، تهمي على تربتك الزكية وتصوب، ولا نحذو في الدعاء لك حذو الشريف الرضي، فنستعير للنبت جنيناً ترضعه المراضع، من السحب الهوامع، تلك أودية هامت فيها أخيلة الشعراء، فنبذتهم بالعراء، وزاغوا بها عن أدب الإسلام ومنهاجه، وراغوا عن طينته ومزاجه، بل تلك بقية من بقايا الجهل، ما أنت ولا صاحبك لها بأهل.

قولا لصاحب القبر عني: يا ساكنَ الضريح، نجوى نِضْوٍ طليح، صادرةً عن جفن قريح، وخافق بين الضلوع جريح، يَتَأَوَّبُهُ في كل لحظةٍ خيالُك وذكراك، فيحملان إليه على أجنحة الخيال من مسراك اللهب والريح، وتؤدي عنهما شؤونه المنسربة، وشجونه الملتهبة، وعليهما شهادة التجريح.

إن من تركت وراءك، لم يحمد الكرى فهل حمدت كراك؟ وهيهات، ما عانٍ كمستريح!

يا ساكن الضريح، أأكني؟ أم أنت كعهدي بك تؤثر التصريح؟ إن بُعدك أتعب من بَعدك.

لقد كانوا يلوذون من حياتك الحية بكنف حماية؛ ويستذْرُون من كفاءتك للمهمات بحصن كفاية، ويستدفعون العظائم منك بعظيم؛ وايم الله لقد تَلَفَّتَتْ بعدك الأعناق، واشرَأبَّتْ، وماجت الجموع واتلأبَّتْ، تبحث عن إمام لصفوف الأمة، يملأ الفراغ ويسد الثلمة، فما عادت إلا بالخيبة، وصِفْر العَيبة [16].

يا ساكنَ الضريح؛ مِتَّ فمات اللسان القوّال، والعزم الصوّال، والفكر الجوّال، ومات الشخص الذي كان يصطرع حوله النقد، ويتطايرُ عليه شرر الحقد؛ ولكن لم يمت الاسم الذي كانت تقعقع به البرد، وتتحلّى به القوافي الشُّرد، ولا الذكرُ الذي كانت تطنطن به الأنباء، وتتجاوب به الأصداء، ولا الجلال الذي كانت تعنو له الرقاب، وتنخفض لمجلاه العقاب، ولا الدوي الذي كان يملأ سمعَ الزمان، ولا يبيت منه إلا الحق في أمان.

مات الرسم، وبقي الاسم، واتفق الودود والكنود على الفضل والعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير