أما قراءة الخط الثاني، فهي ترفض قراءة الطبري تماماً، وتعتبر أن هذا "لا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث. وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} [الحجر: 15/ 42]، وقال اللعين: إلا عبادك منهم المخلصين، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم ..
وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين .. القرطبي .. انتهى ..
أما ابن كثير فمضى في تأويل حديث البخاري، الذي اعتمده الطبري (فيه نفي للشك عنهما يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بألا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس) ..
قد يتبادر إلى الذهن أن الأمر مجرد مسألة خلافية. و هي قد تكون كذلك فعلاً – لكن هناك مياه كثيرة مرت تحت الجسر خلال القرون الستة الفاصلة بين القراءتين، وهي المياه التي بررت هذا الاختلاف ..
فبغداد، حاضرة الحضارة العباسية، التي أنتجت قراءة الطبري، كانت عاصمة النهضة والنماء، وكان التيار العقلاني فيها شديد الرسوخ والوضوح، لذلك فإن حسم (الطبري) هو نتيجة طبيعية لهذه البيئة، على العكس من القراءة الأخرى، التي نتجت في عصر أفول هذه الحضارة، والجمود على موجوداتها، فعكست هذا الأفول والجمود، وأبرزت الخوف الكامن في نمط التفكير من كل ما يتصور أنه يمس هذه الموجودات ..
ولم يكن الطبري، أو ابن إسحاق، وهما الأقرب لعصر النبوة، أقل حرصاً على مقام النبوة، لكن مقام النبوة، عندما يكون المناخ نهضوياً ومرتفعاً، يكون مناخ الاقتداء بهذا المقام هو الأساس، والاقتداء يتطلب الإيمان بإنسانية هذا المقام في الدرجة الأولى – وهو اقتداء لن يخدشه أن إبراهيم بحث عن الحق قبل الوحي، بل سيعززه ويعزز مكانة العقل في الإسلام ككل، كما أنه مقام لن يخدشه حقيقة ان سيدنا إبراهيم كان إنساناً قد يكون وقع له ما يقع على البشر ..
أمران مهمان يجب ألا ننساهما هنا: الأول: سيكون من الخطأ وضع التراكم الفقهي والتفسيري كله في سلة واحدة. فما نتج في عصر النهضة الإسلامية الأولى – مختلف تماماً عما نتج في عصور أخرى، خاصة إذا كان هذا النتاج الأخير مكرساً لما ترسخ في المجتمع من جمود وتقليد. لذا فإن الحديث عن "القطيعة" أو عن "التواصل" مع "التراث" لا ينبغي أن يكون بمعزل عن البيئة التي أنتجت هذا التراث، هل كانت بيئة النهضة والحضارة والنمو؟ .. أو كانت بيئة النكوص والجمود؟ ..
الثاني: لا يعني هذا أبداً أن كل ما أنتج في قرون الجمود جامداً .. فهناك قراءة استطاعت أن تخرج من إطارها الحضاري وكانت تقصد النهضة والبناء، ابن تيمية وابن خلدون والعز بن عبد السلام والشاطبي، كلهم أمثلة على قراءات أنجزت في عصر لا يمكن اعتباره مقاربا لعصر النهضة الاولى، ولكنها كانت تنزع إلى غير ما هو سائد في المجتمع، ولذلك نرى، أن هذه القراءات لم تكرس ولم ترسخ في أذهان عموم الناس .. لم تدخل في صلب ما هو "مؤسس" في أذهان الناس ...
اللافت هنا، أن السائد والمهيمن حتى الآن، والذي يجري تداوله، هو قراءة الخط الثاني، بحسم تام احيانا وحتى دون أن يذكر وجود تفسير آخر، وهو أمر لا يجب أن يكون مستغرباً .. فعصرنا الحالي بالتأكيد هو أقرب إلى القرن السابع الهجري، عصر الانهيار والدويلات، من عصر الطبري، عصر النهضة والبزوغ و الحضارة ..
من جريدة العرب القطرية-18 - 1 - 2008