[وضع الظاهر موضع الضمير أسلوب من أساليب العموم في القرآن]
ـ[مساعد الطيار]ــــــــ[29 Feb 2008, 10:41 م]ـ
إن من مقتضى الاختصار في الكلام أن يعود الضمير على ظاهر قبله، لكن إذا وُضِع الظاهر موضع الضمير، فإن هذا ـ عندي ـ نوع من الإطناب؛ جيء به لفائدة مهمة، فكل سياق يحمل من الفوائد ما لا يحمله السياق الآخر، وإن كانت هناك بعض الفوائد التي تُعدُّ أصلاً لا يكاد يختلف في هذا الأسلوب البلاغي، ومن ألطف الفوائد التي قد تمرُّ في أمثلة وضع الظاهر موضع المضمر = (تعميم الوصف).
انظر ـ مثلاً ـ قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران: 146 ـ 148).
وُضع الظاهر موضع المضمر هنا في موضعين:
الأول: قوله: (الصابرين)، ولو عاد الضمير إليهم لكان نظم الجملة: (والله يحبهم)، فعُدِل عن الضمير إلى الظاهر (الصابرين)، ليفيد تعميم محبة الله للصابرين، سواء أكان صبرهم على هذه الطاعة أم كان على طاعات غيرها.
الثاني: قوله (المحسنين)، ولو عاد إليهم ضميرًا لقال: (والله يحبهم)، وفي إظهار الضمير باسم (المحسنين) فائدة، وهي تعميم محبة الله للمحسنين سواءٌ أكان المحسن أحسن في جنس عمل المذكورين أم كان أحسن في عمل آخر من أعمال البرِّ والطاعة، وهذا لا يصلح أخذه من الضمير إلا من طريق القياس ـ إن صح ـ أما في الحال هذه فإنه يؤخذ من عموم اللفظ، وهو أقوى في الدلالة من القياس.
وقد يقول قائل: إن في ذكر الضمير تفويتًا لمحاسن الفاصلة، وهي من مقاصد الكلام البليغ.
والجواب عن هذا أن يقال: إن هذا صحيح بلا ريب، لكن اختيار لفظ (الصبر والإحسان) دون غيره مقصود من المتكلم سبحانه؛ لأنه يمكن أن يغني عنه في هذا المقام (المجاهدين، المقاتلين)؛ لأن السياق يتكلم عنهم، فلما عُدِل إلى (الصابرين، المحسنين) دلَّ على أن ذلك اللفظ بما يحتويه من معنى مقصود من المتكلم به سبحانه.
وبهذا اللفظ المختار لإتمام الفاصلة يكون قد تحقق الأمران: المعنى، وهو الأصل، ثم تتبعه الفاصلة، وهي فرع عن تمام المعنى. وهذه هي قاعدة علاقة المعنى بالفاصلة في القرآن الكريم، فلا تأتي الفاصلة نشازًا عن المعنى، أو تأتي فيما لا حاجة له بها، وهذا من بلاغة القرآن التي امتاز بها عن سائر الكلام.
ـ[أبو عبيدة]ــــــــ[29 Feb 2008, 11:44 م]ـ
فائدة رائعة شيخنا الفاضل
جزاك الله خيرا
ـ[د عبدالله الهتاري]ــــــــ[29 Feb 2008, 11:53 م]ـ
جزى الله أخانا د مساعد خير الجزاء على لفت الانتباه إلى هذا الموضوع، وقد تناولت هذا الموضوع بتفصيل مع تتبع الدلالات المختلفة له في مواضعه المختلفة في السياقات القرآنية،وأفردت لذلك مبحثا خاصا في كتابي "الإعجاز البياني في العدول النحوي السياقي في القرآن الكريم".
ـ[مساعد الطيار]ــــــــ[01 Mar 2008, 07:55 ص]ـ
أشكر الإخوة على هذه التعقيبات، وإن شاء الله نستفيد من كتابتكم في هذا المجال يادكتور عبد الله، فالموضوع كما تعلمون طريف ولطيف، وفيه نفائس، لكن عندي سؤال: هل يمكن أن يكون بحثًا لمرحلة الماجستير؟
هذا إن لم يكن استقرئ الموضوع وبحث بحثًا وافيًا.
ـ[أمة الرحمن]ــــــــ[01 Mar 2008, 02:19 م]ـ
موضوع قيم
جزاكم الله خيرا
ـ[د عبدالله الهتاري]ــــــــ[01 Mar 2008, 06:21 م]ـ
الموضوع هذا كما تفضلتم قيم جدا ويصلح أن يكون أطروحة ماجستير وسيجد فيه الباحث متعة البحث وسيصل من خلاله إلى دلالات رائعة وسيجد الباحث فيه مراجع كثيرة.
ـ[طارق عبدالله]ــــــــ[01 Mar 2008, 08:57 م]ـ
الأخ الحبيب شيخنا الفاضل الدكتور مساعد ... حقا سررت بيانك و كذلك بتعقيبات الأفاضل ولكن ألا ترى معي سيدي أن في ذلك بيانا وإجلاءً لحقيقة الصبر، وتبصرة بجوانبه المتعددة، وأنه لفظ يعم جميع مقتضياته التي ذكرت في هذا السياق في الآية وغيرها من الآيات الأخر اللواتي تكشف كل واحدة منهن اللثام عن جانب من جوانبه، أو عن درجة من درجاته وفق مقتضى السياق أواللحاق وفي الحقيقة هنا في الآية شعرت كأني بحاجة إلى تفهم دلالة كل من المتعاطفات .. (فما وهنوا لما أصابهم ... ) .. (.وما ضعفوا .. ) (وما استكانوا .. ) حتى أدرك جوانب هامة ودقيقة من مكونات أو مشتملات الصبر التي ينبغي البحث عنها_ حيث أن العطف يقتضي المغايرة لا المماثلة_ وعن مسالك التحلي بها ومواجهة المواقف المتنوعة التي ينبغي للمسلم أن يتحقق بها لبلوغ مقام الصبر
وكذلك في الكشف عن العلاقة بين الدعاء والتضرع إلى الله تعالى والتحقق بمقام الصبر و بلوغ مقام الإحسان حيث توج بصورته الجامعة هنا وهو (الثبات)، بل الإحسان في جميع مسالك العبودية وبلوغ الغاية فيها .... وذلك هو الإحسان وهو غاية وكمالِ مقامات العبودية وتاجها الأسمى وفي الانتقال بين موجبي محبة الله تعالى والترتيب بينهما معان أخر وفوائد جمة تذكرني بأواخر سورة النحل
وأسأل الله أن يتقبل خالص دعائي لكم
تلميذكم طارق
¥