[وقفات مع تفسير ابن عطية الأندلسي (4)]
ـ[مساعد الطيار]ــــــــ[02 Mar 2008, 04:27 م]ـ
لا تزال الوقفات مع الإمام ابن عطية في لطائفه ودقائقه في (التفسير بالمثال)، ومن هذه التخريجات التي كان يعمل بها فيما يرد عن السلف من ألفاظ توهم التخصيص للفظ العام ما يأتي:
(1) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (الأنفال: 1)
قال الإما ابن عطية: ((وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال: (الأنفال) الأسارى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم)).
تأمل هذا القول الغريب الذي لو عُرض على واحد منا لاستنكره واستبعده من أول الأمر، لكن الإمام ـ رحمه الله ـ يذهب بسعة نظره إلى أن هذا يدخل في باب المثال.
وإذا تأمَّلت الحال، وجدت أن الأنفال: هي الزيادة التي يغنمها المسلمون فوق النصر، والأسارى مما يدخل في كونه فوق ما أتاهم من النصر؛ ولأن الأسارى قد يُفدون بالمال، فيؤول الأمر إلى غنيمة معتبرة معروفة.
فائدة: لا يلزم من ورود هذا القول عن الشعبي أنه صحيح في النقل عنه، بل في الأمر شكُّ في صحة ذلك لتفرد النقاش (ت 351) في النقل، والنقاش ينقل كثيرًا من الغرائب والموضوعات، لذا لا يُعتدُّ بانفراده في مثل هذه الحال.
ومما ورد في ترجمته في كتاب (الوافي بالوفيات): ((النقاش المفسر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هرون بن جعفر بن سند المقرئ أبو بكر المعروف بالنقاش الموصلي الأصل البغدادي عالم بالقرآن والتفسير، صنف تفسيرا سماه شفاء الصدور ... ذُكر عند طلحة بن محمد بن جعفر قال كان يكذب في الحديث والغالب عليه القصص، وقال البرقاني: كل حديث النقاش مناكير ليس في تفسير حديث صحيح، وقال هبة الله اللالكائي الحافظ: تفسير مناكير النقاش اشفاء الصدور ليس شفاء الصدور، قال الخطيب: في حديثه مناكير بأسانيد مشهورة ... وقد اعتمد صاحب التيسير على رواياته، قال الشيخ شمس الدين: الذي وضح أن هذا الرجل مع جلالته ونبله متروك ليس بثقة، وأجود ما قيل فيه قول أبي عمرو الداني: النقاش مقبول الشهادة، توفي سنة إحدى وخمسين وثلث مائة وولد سنة ست وقيل سنة خمس وستين ومائتين)).
(2) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الأنفال: 71)
قال القاضي أبو محمد: ((وأما تفسير هذه الآية بقصة عبد الله بن أبي سرح فينبغي أن يحرر، فإن جلبت قصة عبد الله بن أبي سرح على أنها مثال كما يمكن أن تجلب أمثلة في عصرنا من ذلك فحسن، وإن جلبت على أن الآية نزلت في ذلك فخطأ، لأن ابن أبي سرح إنما تبين أمره في يوم فتح مكة، وهذه الآية نزلت عقيب بدر)).
لله در هذا الإمام، تأمل هذا التحليل المحرَّر، والتدقيق المُنيف، إن مثل هذا التخريج المحرر لمثل هذا القول لهو تدريب عملي لطالب علم التفسير، يعرف به كيف يخرج من مضايق مشكلات بعض الآثار، فلا يعجل عليها بالنقض والرد، بل يذهب بها إلى توجيه محتمل مقبول، فإن لم يمكن فساعتئذ يكون النقض.
أما التفسير الذي ذكره فقد ورد عن قتادة عند الطبري بالسند الآتي: ((حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإن يريدوا خيانتك) الآية، قال: ذكر لنا أن رجلا كتب لنبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمد فنافق، فلحق بالمشركين بمكة، ثم قال: "ما كان محمد يكتب إلا ما شئت! " فلما سمع ذلك رجل من الأنصار، نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح، أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومِقْيَس بن صُبابة، وابن خطل، وامرأة كانت تدعو على النبيّ صلى الله عليه وسلم كل صباح. فجاء عثمان بابن أبي سرح، وكان رضيعه = أو: أخاه من الرضاعة = فقال: يا رسول الله، هذا فلان أقبل تائبًا نادمًا! فأعرض نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلما سمع به الأنصاريّ أقبل متقلدًا سيفه، فأطاف به، وجعل ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم يده فبايعه، فقال: أما والله لقد
¥