[وقفات مع تفسير ابن عطية الأندلسي (2)]
ـ[مساعد الطيار]ــــــــ[17 Jan 2008, 02:31 م]ـ
رأيت أن أتتبع التفسير من أوله، وأضع بعض الفوائد التي ذكرها ابن عطية، مما يفيد المفسر حال الاطلاع عليها؛ خصوصًا ما يكون فيها ارتباط بالتعليق على أقوال المفسرين، ثم إن رأيت غيرها مفيدًا نقلته، وأسأل الله أن يعينني على إتمام هذا المشروع، إنه سميع مجيب.
أولاً: التمثيل للفظ العام
1 ـ في قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة: 3).
قال ابن عطية: ((وقوله: (بالغيب) قالت طائفة: معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا ويكفرون إذا غابوا. وقال آخرون: معناه يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع.
واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية هو الله عز وجل.
وقال آخرون: القضاء والقدر.
وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب.
وقال آخرون: الحشر والصراط والميزان والجنة والنار.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الأقوال لا تتعارض، بل يقع الغيب على جميعها، والغيب في اللغة: ما غاب عنك من أمر، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله)).
2 ـ (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة: 3)
قال ابن عطية: ((قال ابن عباس: (ينفقون) يؤتون الزكاة احتساباً لها.
قال غيره: الآية في النفقة في الجهاد.
قال الضحاك: هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر يُسْرهم.
قال ابن مسعود وابن عباس أيضاً: هي نفقة الرجل على أهله.
قال القاضي أبو محمد: والآية تعمّ الجميع. وهذه الأقوال تمثيل لا خلاف)).
في هذه الأمثلة يقف ابن عطية موقف الفقيه بتفسير السلف، العارف بطريقتهم في التعبير عن التفسير، فاللفظ القرآني عامٌّ، وعبارات السلف قد تُوهم ـ من لا يفهم طريقتهم ـ التخصيص، لكن ابن عطية ينبهنا على أن هذا صدر منهم على سبيل التمثيل للفظ العام، وليس على سبيل التخصيص؛ لأن التخصيص لا يكون إلا بموجب له.
لذا إذا أخذت المثال الأول، فقلت: هل الحشر والصراط والميزان والجنة والنار هي جميع الغيب؟
فالجواب: لا.
وإذا قلت: هل في عبارات السلف ما يُشعر بأنهم أرادوا التخصيص؟
فالجواب: لا.
إذن، فإن مرادهم التمثيل للغيب بمثال يفهم منه السامع (أو القارئ) المراد بما تحتويه هذه اللفظة من المعنى أو الأنواع.
ويقع هاهنا سؤال يرد على الذِّهن، وهو: لماذا اختار المفسر هذا المثال دون غيره؟
والجواب: إن البحث والتنقيب عن هذا عسرٌ جدًّا، وقد يكون ظاهرًا حينًا، وقد يخفى في أحيانٍ كثيرة، لكن لا بأس من تلمُّس أسباب اختيار هذه الأمثلة، ومن إبداعات ابن عطية في هذا المقام، وما ورد عنه في قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134)، قال: ((وقال أبو العالية: (والعافين عن الناس)، يريد المماليك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن على جهة المثال، إذ هم الخدمة، فهم مذنبون كثيراً، والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثَّل هذا المفسر به).
وهذا، وايم الله، فقه تفسيريٌّ عالٍ، فلا يفوتنَّك.
ولأقف بك مع مثال آخر يدلك على هذا الفقه التفسيري المتميِّز عند ابن عطية، وستراه ـ إن شاء الله ـ يفك عنك شيئًا من مشكلات التفسير التي تمر بك وأنت تقرأ في تفسير السلف.
3 ـ في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (آل عمران 7)
¥