كانت هيبة مصر فى صدور جيرانها منذ فجر التاريخ تصورها لهم سداً منيعاً، تعلموا بالتجربة أنهم ما انتطحوه إلا وقد تحطمت عليه قرونهم، فلم يجدوا لمصر أليق من هذا الاسم " مصر " يسمونها به.
أما المصريون فلم يسموا بلدهم باسم " مصر " العربى العبرانى على معنى الحائل أو الحاجز .. فقد منّ الله على هؤلاء المصريين فى غابر الدهر بالطمأنينة فى بلادهم، لا يهابون أحداً من وراء هذا الحائل أو الحاجز، بل قل لا يهتمون لشىء من أمر الذين هم من وراء هذا الحائل أو الحاجز. كان لديهم قدر من الاكتفاء بالذات، نغبطهم عليه كل شعوب العالم القديم، فانكفؤوا على أنفسهم يحرثون ويزرعون، ويغزلون وينسجون، ثم يجدون من بعد هذا كله وفرة من الوقت، يصنعون فيها أصول الحضارة والفن لكل البشر.
هذا الاكتفاء بالذات، والانكفاء على النفس، أورثا المصريين من قديم أنفة واعتزازاً، وربما أيضاً عجباً وخيلاء، والتصاقاً بالأرض، حتى ملئت صدورهم ببلدهم هذا عشقاً، فقروا فى " أرضهم " لا يبغون عنها حولاً، وغيرهم الذاهب الجائى!
نعم .. غيرهم الذاهب الجائى .. فإن اللفظ الدال على صفة الأجنبى فى المصرية القديمة هو " شماو "، و " شاسو "، الأول من الجذر " شم "، والثانى من الجذر " شس "، وكلاهما بمعنى ذهب ورحل.
كانت حياة المصريين: الأرض والنهر .. فكانت مصر عندهم فى لغتهم هى " الأرض " " تا "، لا أرض غيرها من بعدها .. وكان اسم النيل عندهم بلغتهم هو " النهر " " إترو "، لا نهر فى الأرض من دونه.
ومن الأرض والنهر اشتق المصريون الأقدمون اسم " مصر " بلغتهم هم، فقالوا:
(1) .. " إدبوى " .. مثنى " إدب " يعنى الضفة، فهى " الضفتان "، يعنون ـ على الراجح ـ جانبى الوادى.
(2) .. " تاوى " .. مثنى " تا " يعنى الأرض، فهى " الأرضان " على التعظيم.
(3) .. " تا ـ مرى " .. يعنى " أرض المحبوب ".
(4) .. " تا ـ كِمْت "، أو " كمت " فقط اختصاراً .. وأصلها " الأرض السوداء "، يقصدون خصوبتها.
أصل معنى " مصر " عند أهلها ـ كما رأيت بلغتهم هم ـ هو الأرض، وإن عددوا لها النعوت.
وردت " مصر " بهذا اللفظ خمس مرات فى كل القرآن، وليس فى أى منها تفسير لمعنى لفظة " مصر ".
لكن القرآن المعجز يفسر اسم مصر على الترجمة من المصرية القديمة فى أكثر من موضع، أى بلفظة " الأرض "، التى فى " تاوى "، و " تا ـ مرى "، و " تا ـ كمت "، على الإبدال من مصر .. يفعل القرآن هذا عامداً متعمداً؛ إدلالاً بعلمه وإعجازه.
ما إن تعلم أن " مصر " بلغة أهلها اسمها " الأرض "، وتضع " مصر " موضع " الأرض " فى الآيات التى سأنتقيها لك تواً، حتى يستقيم لك معنى الآية على الوجه الصحيح، الذى لا تملك أن تعدل به غيره.
وردت مادة " الأرض " فى كل القرآن حوالى 359 مرة، تلمح فى بعضها اسم " مصر " وراء لفظة " الأرض " التى فى الآية، أترك لك استقصائها فى مصحفك، ولكنى سأدلك على عشرة منها ـ غير مستقص ـ فيها الدليل القاطع على أن " الأرض " التى فى الآية إنما يقصد بها اسم " مصر " صريحاً.
أولاً: ثلاثة مواضع فى قصة يوسف عليه السلام ..
(1) .. " فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً، قال كبرهم: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله ومن قبل ما فرطتم فى يوسف، فلن أبرح الأرض حتى يأذن لى أبى أو يحكم الله لى، وهو خير الحاكمين " 80.
ترى هل تستطيع إلا أن تضع " مصر " موضع " الأرض " فى عبارة " لن أبرح الأرض "؟!
(2) .. " وقال الملك: ائتونى به، أستخلصه لنفسى، فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال: اجعلنى على خزائن الأرض، إنى حفيظ عليم " 54.
وأنت تعلم بالطبع أن ليس للأرض خزائن، وإنما الخزائن التى أقام الملك عليها يوسف هى خزائن مصر.
(3) .. " وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء، ولا نضيع أجر المحسنين " 56.
ثانياً: سبعة مواضع فى قصة موسى عليه السلام ..
(1) .. " وقال الملأ من قوم فرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض ويذرك وآلهتك؟ قال: سنقتل أبنائهم ونستحيى نسائهم وإنا فوقهم قاهرون " الأعراف: 127.
¥