وعلل بعضهم سبب التسمية (السهيلى) بقوله فى معرض التشابه القوى بين السريانية والعربية: (ألا ترى أن " إبراهيم " تفسيره " الأب الرحيم "؟ لرحمته بالأطفال، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامة). وهذا ـ فوق سماجته ـ ضعيف، تشم فيه من قريب رائحة النقل عن أهل الكتاب. والطريف أن القرطبى تحمس لهذا التعليل، فعززه بما فى حديث البخارى الطويل فى الرؤيا عن سمرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى فى الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس.
وليس فى هذا الحديث أيضاً ـ وإن صح ـ ما يشهد لتفسير اسم إبراهيم بمعنى الأب الرحيم .. بل ليس البر والرحمة هما أعظم مناقب إبراهيم عليه السلام، حتى يتكلف اشتقاق هذا الاسم منهما. وإنما كانت كبرى مناقبه عليه السلام، بشهادة الله عز وجل، أنه الذى وفى: " أم لم ينبأ بما فى صحف موسى. وإبراهيم الذى وفى " [النجم 36، 37]
كان إبراهيم المثل الأعلى للمسلم الحق، يسلم أمره كله لله، تنهد الجبال ولا يتزعزع له إيمان، فكان حقه على الله أن يقول فيه: " إن إبراهيم كان أمة " يؤتسى به ويؤتم. وأن يقول فيه: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد اصطفيناه فى الدنيا، وإنه فى الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربه: أسلم! قال: أسلمت لرب العالمين " .. " ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً ". وكان حقه على الله أن يستجيب دعوته فى الملة الآخرة: " ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك "، فيكون إمام المذهب والطريقة، أى الملة: " ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل ".
كان جزاء إبراهيم الذى وفى ـ وقد اجتاز البلاء المبين ـ أن جعله الله عز وجل إماماً للناس: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال: إنى جاعلك للناس إماماً " .. وهذا هو المعنى الدقيق لاسم إبراهيم: " إمام الناس " الذى لا يصح فى العبرية غيره كما مر بك، وتلك هى مناسبة الانتقال باسمه من أبرام إلى أبراهام يوم التمام، باجتياز " البلاء المبين ".
قالت بعض التفاسير والمعاجم إن لفظ " الأمة " فى قوله " إن إبراهيم كان أمة "، يعنى الرجل الجامع لخصال الخير .. وليس هذا من اللغة فى شىء، فلا يجوز للغوى الحاذق أن يشتق المعنى بعيداً عن أصل المادة اللغوية .. ليس فى مادة الجذر العربى (أ م م) شىء يفيد الجمع بين خصال الخير، وإنما كله يدور حول معنى الأم التى ولدت، والأم بمعنى المثابة يثاب إليها، والأم يجتمع إليها صغارها، والأم يتبعها ولدها .. والأمة فى الآية اسم من هذا .. إنه " القدوة " وزناً ومعنى.
أما سفر التكوين فيعلل سبب العدول عن أبرام إلى أبراهام بالوعد بكثرة النسل .. وليست أبوة إبراهيم هى أبوة " الناسل "، وإنما هى أبوة " الإمامة ".
ولو فطن كاتب سفر التكوين وعلماء التوراة إلى هذا المعنى الجليل فى اسم إبراهيم عليه السلام، لعضوا عليه بالنواجذ، ولكن " ألهاهم التكاثر "، عقدة اليهود فى كل عصر .. أراد الكاتب مجده هو ومجد شعبه ـ إن كان فى كثرة النسل مجد ـ ولم يطلب مجد إبراهيم، فأراد الأب المنجاب " الناسل "، ولم يرد الأب " الإمام ".
قال المسيح عليه السلام فى تقريع هؤلاء، ينص على أبوة الإمامة: " لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم، ولكنكم الآن تطلبون قتلى، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذى سمعه من الله، هذا لم يعمله إبراهيم " [يوحنا: 8: 39، 40]
وقالها القرآن أيضاً فأوجز وأبلغ: " إن أولى الناس بإبراهيم للذن اتبعوه وهذا النبى " [آل عمران 68]
وليس بعد هذا شرف لإبراهيم عليه السلام .. النبى الإمام .. صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه، وعلى كل من تبعهم بإحسان.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[09 Apr 2004, 08:32 م]ـ
أخي الكريم الأستاذ محب وفقه الله جزاك الله خيراً على فوائدك المتتالية، وأرجو أن لا تنقطع.
وأما قولكم: (هل من الجائز أن يكتشف مسلم متأخر وجهاً لإعجاز القرآن لم يكتشفه السلف، ولم ينبهوا على أصله، ولم يشيروا إليه بكلمة؟).
فالجواب عليه: أن هذا من حيث المبدأ مقبول، وإذا أتى من يقول به بأدلة تؤيد قوله، ولا تناقض ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة ولا التابعين، فلا مانع من قبوله، وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى على عباده. وهذا من لوازم القول بأن الإسلام شريعة كاملة شاملة لكل زمان ومكان. والله أعلم.
ولا يعني هذا أخي الحبيب أن تتفق مع المؤلف وفقه الله في كل جزئيات الكتاب، فالكمال عزيز، ولن تجد كتاباً خالياً من العيوب خلا كتاب الله.
ـ[خالدعبدالرحمن]ــــــــ[17 Apr 2004, 06:32 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله جهد أخينا محب، وجهد الأستاذ رؤوف صاحب البحث ..
والحق أنه بحث مبني على جهد مبارك، وأيمان في قلب صاحبه بعظمة القرآن كلام الله.
وأنا أتفق مع الأستاذ في منطلقه بأن القرآن يفسر نفسه بنفسه، ولا يترك لنا مبهما لا نفقهه! بل يفسر ما اشكل علينا في ثناياه .. ويعلمه الله من يشاء وقتما يشاء ..
ولكني، أختلف مع الأستاذ في نقطتين أساسيتين:1 -
1 - ينطلق الكاتب من حقيقة أن القرآن يحوي في ثناياه كلمات أعجمية!!
وهذا القرآن العربي المبين الميسر للذكر .. كيف يحوي في ثناياه المبهم (الأعجمي)؟!
وكيف نحاكم النص القرآني الأعلى الى اللغة البشرية!!
2 - أرى القرآن نصا متكاملا، مستغنيا بنفسه عن سواه ..
كيف و هو الالهي الأعلى مصدرا؟!
فلا أرى أنه يلزمنا لفهم القرآن الغوص في علوم اللغات القديمة، بل كان من الأجدى أن نبحث في آياته، و في ثنايا معانيه عن معنى ما استشكل علينا ... فهو المستغني بنفسه عن سواه ... مع الأحتفاظ بالسنة واللغة، كأداتين للفهم!
ثم قد نعود الى تلك اللغات الغابرة، للأستئناس وتعضيد الأستنتاجات -ان لزم -!
ووفق الله الجميع
¥