ففي قوله تعالى (بِقَدَر) إشارة لطيفة، ودقيقة علمية، وهي أن الماء ينزل من السماء بقدر ثابت، وأن هناك توازناً بين طرفي المعادلة، أي بين ما يسقط من السماء من مطر وثلج وبرد، وما يصعد إليها من أبخرة، وذلك لتتم الميزانية المائية على الكرة الأرضية، التي لو حصل فيها أي خلل،لأدت إلى وقوع كارثة محتومة، إما إلى جفاف يأكل بعضه بعضاً، وإما إلى طوفان يغرق بعضه بعضاً، فهو نازل بنظام تام، وبقدر ما تقتضيه المصلحة وتستدعي الحكمة، فلا أكثر فيغرق، ولا أقل فيكون الجدب.
العلاقة بين الجبال والأنهار:
النهر وليد الجبل، قال الله تعالى: ? وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ? ().
وقال تعالى: ? وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ? ().
وقال أيضاً: ? وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتاً ? ().
في هذه الآيات مشاهد تشد الأذهان إلى التأمل والتفكر في مخلوقات الله تعالى، فمنذ أن خلق الله تعالى الأرض، جعل الجبال والأنهار في فلك واحد، وهذا الترابط قائم إلى أن يرث الله الأرض، فالجبال خزانات عظيمة للمياه التي تتجمع من الأمطار، ثم تخرج ينابيع وعيوناً تجري أنهاراً.
ونلاحظ في الآية الثالثة، التي تذكر إسقاء الماء الفرات، قد وصف الله تعالى فيها الرواسي بصفة جديدة، هي قوله (شامخات)، أما الآيات الأخرى فلم توصف الجبال الرواسي بشيء، وفي ذلك سر دفين، فلقد قرر علماء المناخ: أن أغزر الأمطار تنزل على أكثر الجبال شموخاً، وكلما انخفض الجبل كلما قلت أمطاره ().
الخزن وراء السدود:
السد: حاجز يبنى عبر جدول أو نهر فيحجز سيل الماء ()، ويكوّن بحيرة صناعية أمام السد، يمكن استخدامه لتخزين ماء الشرب، أو نقل مياهه عبر قنوات إلى المزارع المجاورة، وكما يستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية، وفي أو قات الفيضانات يمكن أن يقي السد المدن والتجمعات السكنية من النكبات والكوارث.
وفكرة بناء السدود اقتبسها المهندسون من بعض مخلوقات الله تعالى، ألا وهي القنادس ()، وهي بطبيعة الحال أول بناة للسدود بالفطرة، وهي التي أوحت للإنسان ببعض أمجاده الهندسية الرائعة، ولاحظ الإنسان أن القنادس أحياناً تحطم سدودها بمحض إرادتها بغية إغراق عدوّها.
قال الله تعالى: ? وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ? ().
ذهب بعض المفسرين في تفسير هذه الآية ? وأرسلنا الرياح لواقح ? إلى أن الرياح تحمل اللقاح من شجرة إلى أخرى، إلا أن سياق الآية لا يشير إلى ذلك، ولا يذكر الإنبات أبداً، بل المراد هنا تلقيح السحاب وإلى ذلك ذهب الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ? حينما قال: ? يرسل الله الرياح لتلقيح السحاب فتحمل الماء فتمجه في السحاب، ثم تمر به فتدر كما تدر الملقحة ? ().
قوله تعالى ? فأسقيناكموه ? تميزت هذه الكلمة عن سائر كلمات القرآن الكريم، بأنها أطول كلمة في القرآن، فهي تتكون من أحد عشر حرفاً من حروف الهجاء، منها عشرة حروف غير مكررة من مجموع حروف اللغة العربية التي هي ثمانية وعشرون حرفاً، وكما أنها تتكون من تسعة حروف من الحروف المقطعة الواردة في فواتح السور، ومنها ثمانية حروف غير مكررة من مجموع الحروف المقطعة التي هي ? أربعة عشر حرفاً ?.
ولفظ (فأسقيناكموه) لا يقصد به شرب الماء وحده، بل كل حاجات الناس للماء من ري المزروعات وسقي الأنعام والدواب، والاستخدامات اليومية الضرورية للإنسان في منزله أو مصنعه أو غير ذلك.
واختلف المفسرون في شرح قوله تعالى: ? وما أنتم له بخازنين ?،قال القرطبي في تفسيره: أي ليست خزائنه عندكم؛ أي نحن الخازنون لهذا الماء، ننزله إذا شئنا، ونمسكه إذا شئنا.
وقال ابن كثير في تفسيره: يحتمل أن المراد: وما أنتم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم، ونجعله معيناً وينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أنزله، وجعله عذباً، وحفظه في العيون والآبار والأنهار، ليبقى لهم في طول السنة، يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم.
¥