وقال الزركشي: "وإنما يفهم بعض معانيه، ويطلع في أسراره ومبانيه، من قوي نظره، واتسع مجاله وتدبره، وامتد باعه، ورقت طباعه" ([9]).
وإدامة النظر والتأمل في كتاب الله تعالى تمنح صاحبها ملكة في معرفة أسلوب القرآن وطرق مخاطباته وأغراضه، وكل ذلك دال على فهم السياق.
ثالثاً: صدق النية في طلب فهم كلام الله تعالى، واللجوء إلى الله وطلب توفيقه.
قال ابن القيم: "الفائدة الحادية والستون حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) ([11])، وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول يا معلم إبراهيم علمني، ويكثر الاستعانة بذلك اقتداء بمعاذ بن جبل رضي الله عنه، وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة 32] .... وكان بعضهم يقرأ الفاتحة وجربنا نحن ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة، والمعول في ذلك كله على حسن النية وخلوص القصد وصدق التوجه" ([12]).
رابعاً: التأمل في السورة كلها وجمع أطرافها وتحديد هدفها العام، فإن ذلك من أعظم ما يدلك على فهم الآيات فيها.
قال صاحب النبأ العظيم: "وملاك الأمر في ذلك أن ينظر إلى النظام العام الذي بنيت عليه السورة بمجموعها" ([13]).
وقد يحصل ذلك بتكرار قراءة السورة مع مراعاة هذا الأمر، أو إعادة النظر فيها واستعراضها بالجملة مرات متعددة بغرض معرفة سياقها العام، فإن ذلك مجرب نافع بإذن الله تعالى.
خامساً: النظر والتأمل في غرض الآية وسابقها ولاحقها.
الغرض هو أساس السياق، والأساس دال على مافوقه، فإذا ما قرأ القارئ الآية سأل نفسه وتفكر وتدبر في مراد الله فيها والغرض الذي من أجله وردت الآية، ثم يبحث عما يؤكد هذا الغرض في الآية من الألفاظ والمناسبات، وهذا مسلك عظيم في فهم السياق، وهو الموصل إلى فهم مراد الله والعمل به على أكمل وجه؛ لأنك إذا علمت مراد الله تعالى حقيقة أوصلك ذلك إلى العمل الصحيح بما دل عليه وتضمنه مراده.
قال البقاعي: "إن معرفة مناسبات الآيات في جميع القرآن، مترتبة على معرفة الغرض أو الأغراض التي سيقت لها السورة" ([14]).
ومن أمثلة ذلك ماذكره ابن العربي في تفسيره لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية [النساء 25]. قال: "فيها اثنتا عشرة مسألة .. المسألة الثانية: في فهم سياق الآية، اعلموا - وفقكم الله تعالى - أن العلماء اختلفوا في سياق هذه الآية، فمنهم من قال: إنها سيقت مساق الرخص .. ومنهم من جعلها أصلاً، وجوّز نكاح الأمة مطلقاً ... وقد جهل مساق الآية من ظن هذا، فقد قال الله تعالى ما يدل على أنه لم يبح نكاح الأمة إلا بشرطين، أحدهما: عدم الطول، والثاني: خوف العنت، فجاء به شرطاً على شرط، ثم ذكر الحرائر من المؤمنات، والحرائر من أهل الكتاب ذكراً مطلقاً، فلما ذكر الإماء المؤمنات ذكرها ذكراً مشروطاً مؤكداً مربوطاً" ([15]).
فانظر كيف قرر غرض الآية بأنها سيقت مساق الرخص، ثم أيده وأكده بنص الآية وما تضمنته من الألفاظ والضوابط للحكم.
سادساً: النظر إلى نظم النص وألفاظه والروابط النحوية فيه، وما تضمنته الآيات من الدلائل والقرائن، وذلك هو الركن الثاني للسياق.
وهذا ظاهر فإنك حين تتأمل في ألفاظ الآيات والترابط بينها ينقدح في ذهنك غرض معين يتكون منه السياق.
قال السرخسي في بيان مفهوم النص بأنه: "يزداد وضوحاً بقرينة تقترن باللفظ من المتكلم، ليس في اللفظ ما يوجب ذلك ظاهراً بدون تلك القرينة" ([16]).
وقال الدكتور محمد محمد موسى في دلالات التركيب: "السياق قوة تحرك التركيب، فتنبعث من إشعاعاته ما يلائمه" ([17]).
سابعاً: النظر في مفردات ألفاظ الآية وأصول معناها اللغوي، ودلالتها على الغرض.
فإن النظر في الكلمة وأصلها اللغوي يدلك على معان دقيقة مقصودة في الآية، وأن اللفظة تحمل معاني متعددة بحسب سياقها، وأعظم ما يعين على ذلك كتابان مهمان:
¥