اليتيم كهاتين واشار الى اصبعيه. وكذلك بالنسبة للهداية فالله تعالى هدى رسوله الكريم وهدى به خلقاً كثيراً (وانك لتهدي الى صراط مستقيم) وهدى له ولاجله من اراد سبحانه وتعالى. اذن خلاصة القول ان الحذف هنا جاء لظهور المراد وفواصل الآيات وسعة الاطلاق كلها مجتمعة لا يتعارض احدها مع الآخر. وكذلك تناسب سعة الاطلاق هنا قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى). فالحذف هنا جاء للعموم والاطلاق في المعنى.
لماذا ترتيب الآيات على هذا النحو؟ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) هذا هو الترتيب الطبيعي في الحياة. اليتم يقال لمن فقد والديه او احدهما وهو دون سن البلوغ فاذا بلغ انتفت عنه صفة اليتم. واذا بلغ دخل في سن التكليف الشرعي فهو يحتاج الى الهداية ليتعلم كيف يسير في الحياة قبل ان يكون فقيرا او غنيا وكيف يجمع المال الحلال لأن كل مال جمع من غير طريق الهداية هو سحت ثم تأتي العيلة وهي امر آخر بعد البلوغ من الناس من يكون فقيرا او غنيا وعلى الاثنين ان يسيرا وفق التعاليم التي تعلماها بعد البلوغ مباشرة وهذا طبيعي ويمر به كل الخلق فهذا هو التسلسل الطبيعي في الحياة. لذا فقد بدأ سبحانه بالحالة الاولى (اليتم) ثم اذا بلغ تأتي الهداية في المرتبة الثانية، وثالثاً العائل والغني يجب ان يسيرا على الهداية.
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
القهر في اللغة هو التسلط بما يؤذي ولا تقهره بمعنى لا تظلمه بتضييع حقه ولا تتسلط عليه او لا تحتقره او تغلب على ماله. كل هذه المعاني تدخل تحت كلمة القهر.
السائل اختلف المفسرون فيها فقال بعضهم هو سائل المال والمعروف والصدقة ومنهم من قال انه سائل العلم والدين والمعرفة وقسم قال انه مطلق ويشمل المعنيين. فسواء كان السائل سائل مال وصدقة او سائل علم ومعرفة يجب ان لا ينهر مهما كان سؤاله. لا يصح ان يزجز او ينهر سائل المال او سائل العلم والدين. اذا كان سائل مال اعطيناه او رددناه بالحسنى وسائل العلم علينا ان نجيبه ونعلمه امور الدين.
اما النعمة فقال بعض المفسرين انها النبوة وتعاليمها وقال آخرون انها كل ما اصاب الانسان من خير سواء كان في الدنيا او الآخرة. وقال آخرون انها نعمة الدين (اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) (ما انت بنعمة ربك بمجنون) والواقع ان النعمة هنا ايضاً تشمل كل هذه المعاني فهي نعمة الدين يجب ان يتحدث بها ويبلغ عنها وهي نعمة الدنيا والله سبحانه يحب ان يرى اثر نعمته على عباده وان يتحدث الانسان بنعم الله عليه وان يظهرها والنعمة عامة في الدنيا والدين وعلى الانسان ان يحدث بهذه النعمة. (النعمة بفتح النون وردت في القرآن بمعنى العقوبات والسوء كما في قوله (ونعمة كانوا فيها فاكهين) (الكافرين اولي النعمة)
لماذا اختيار كلمة (فحدث) ولم يقل (فأخبر)؟
الاخبار لا يقتضي التكرار يكفي ان تقول الخبر مرة واحدة فيكون اخباراً اما التحديث فهو يقتضي التكرار والاشاعة اكثر من مرة، وفي سياق الآية يجب ان يتكرر الحديث عن الدعوة الى الله مرات عديدة ولا يكفي قوله مرة واحدة. ولهذا سمى الله تعالى القرآن حديثا (فليأتوا بحديث مثله). فمعنى (فحدث) في هذه الآية هو المداومة على التبليغ وتكرارها وليس الاخبار فقط فيمكن ان يتم الاخبار مرة واحدة وينتهي الامر.
وفي تسلسل الاحاديث في كتب السنة نلاحظ انهم يقولون: حدثنا فلان عن فلان ويكررون ذلك مرة او مرات عديدة حتى يصلوا الى أخبرنا رسول الله r فالرسول الكريم يخبر بالحديث ثم يتناقله الصحابة فيما بينهم ويستمر تناقل الحديث حتى يعم وينتشر.
لماذا جاء ترتيب الآيات على هذا النحو؟ فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث.
اثار هذا الترتيب الكثير من الاسئلة عند المفسرين لماذا رتبت الآيات على هذه الصورة لانه لا يرد بنفس تسلسل الآيات السابقة (الم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى).
لنستعرض الآيات واحدة واحدة: أما اليتيم فلا تقهر جاءت بنفس تسلسل الآية (ألم يجدك يتيما فآوى) نفس النسق.
¥