تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولعل أصدق مثال لهذه الخصومة العنيفة بين علماء العرب والموالى: هذا الكتاب الذى كتبه الجاحظ فى البيان والتبيين وهو " كتاب العصا ". واصل هذا الكتاب كما تعلم ان الشعوبية كانوا ينكرون على العرب الخطابة، وينكرون على خطباء العرب ما كانوا يصطنعون أثناء خطابتهم من هيئة وشكل وما كانوا يتخذون من أداة، وكانوا يعيبون على العرب اتخاذ العصا والمخصرة وهم يخطبون. فكتب الجاحظ كتاب العصا ليثبت فيه أن العرب أخطب من العجم، وأن اتخاذ الخطيب العربي للعصا لايغض من فنه الخطابي.

أليست العصا محمودة فى القرآن والسنة وفى التوراة وفى أحاديث القدماء؟ ومن هنا مضى الجاحظ فى تعداد فضائل العصا حتى أنفق فى ذلك سفرا ضخما.

والذي يعنينا من هذا كله هو أن نلاحظ أن الجاحظ وأمثاله من الذين كانوا يعنون بالرد على الشعوبية، مهما يكن علمهم ومهما تكن روايتهم لم يستطيعوا أن يعصموا أنفسهم من الانتحال الذى كانوا يضطرون الله اضطرارا ليسكتوا خصومهم من الشعوبية.

فليس من اليسير ان نصدق أن كل ما يرويه الجاحظ من الأشعار والأخبار حول العصا والمخصرة يضيفه الى الجاهليين صحيح.

ونحن نعلم حق العلم ان الخصومة حين تشتد بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب.

فالجاحظ عقد في كتابه ''البيان والتبيين'' باباً طويلاً سماه ''كتاب العصا'' صوّر فيه طعن الشعوبية على العرب في خطاباتهم، إذ كانوا يشيرون فيها بالعصي والمخاصر، كما كانوا يتكئون على القسي، مما يصرف في رأي الشعوبيين الخاطر ويشغل الذهن أثناء الخطابة .. وزعموا أن الفرس أخطب من العرب .. وكل ذلك نازعهم الجاحظ في عنف شديد، ولكي يبلغ كل ما كان يريد إفحامهم ومقاومتهم جعل كتابه (البيان والتبيين) رداً مفحماً عليهم، إذ خصصه لعرض الثقافة العربية الخالصة في صورها المختلفة من الخطابة والشعر والأمثال، كي يروا رؤية العين ما في هذه الثقافة من قيم بلاغية وجمالية، فينتهوا عن مزاعمهم ويثوبوا إلى رشدهم''

واحتل كتاب العصا، عند الجاحظ، من كتابه: البيان والتبيُّن:

الجزء الثالث، وفيه:

((بسم اللّه الرحمن الرحيم

كتاب العصا

هذا أبقاك اللَّه الجزء الثالث من القول في البيان والتبيين وما شابَهَ ذلك من غُرَرِ الأحاديث وشاكَلَه من عُيون الخُطب ومن الفِقَرِ المستحسَنة والنُّتَف المستخرَجة والمُقَطَّعات المتخيَّرة وبعضِ ما يجوز في ذلك من أشعار المذاكَرة والجواباتِ المنتخَبة ونبدأُ على اسم اللَّه بذكر مذهب الشعوبية ومن يتحلَّى باسم التَّسويَة وبمطاعِنهم على خطباء العرب: بأخذ المِخصَرَةِ عند مناقَلَة الكلام ومساجَلة الخصومِ بالموزون والمُقَفَّى والمنثور الذي لم يُقَفَّ وبالأرجاز عند المَتْح وعند مُجاثاة الخَصْم وساعَة المشاوَلَة وفي نفس المجادَلة والمحاوَرة وكذلك الأسجاعُ عند المنافرة والمفاخرة واستعمال المنثور في خُطَب الحَمَالَة وفي مقامات الصُّلح وسَلِّ السخيمة والقولُ عند المعاقَدِة والمعاهَدة وتركُ اللّفظ يَجري على سجيَّته وعلى سلامته حتَّى يخرجَ على غير صنعة ولا اجتلاب تأليف ولا التماسِ قافية ولا تكلّفٍ لوزنٍ مع الذي عابُوا من الإشارة بالعِصيّ والاتّكاء على أطراف القِسِيّ وخدِّ وجه الأرض بها واعتمادها عليها إذا اسحَنفرت في كلامها وافتنَّتْ يومَ الحفْل في مذاهبها ولزومِهم العمائم في أيام الجُموع وأخْذِ المخاصر في كلِّ حال وجلوسِها في خطب النّكاح وقيامِها في خطب الصُّلْح وكلِّ ما دخل في باب الحَمَالة وأكّد شأن المحالفةِ وحقّق حُرمةَ المجاورة وخُطَبِهم على رواحلهم في المواسم العظام والمجامع الكِبار والتّماسُحِ بالأكُفّ والتّحالف على النار والتعاقُد على المِلح،

وأخذ العهد الموكَّد واليمين الغَمُوسِ .... )

ولا نعرف في التاريخ كتاباً شَغَلَ مؤلِّفَهُ، كما شَغَل كتاب "العصا" أسامة ابن منقذ. فقد ظلَّ أسامة متعلّقاً بموضوع كتابه نحو ستين عاماً.

ويشير أسامة في مقدمة الكتاب إلى السبب الذي حدا به إلى تأليفه، فيذكرُ أنه سمع من والده-وهو صغير-أنه توجه إلى خدمة السلطان ملك شاه بأصفهان، فزارٌ الشيخ العالِمْ أبا يوسف القزويني عندما اجتاز بغداد. وكان معه علي بن البوين-الشاعر النحوي-وهو كاتب سديد الملك جَدّ أسامة.

وكان الشيخ أبو يوسف القزويني لضعفِهِ وكِبَره قد استند بين الجالس والمستلقي إلى فراشٍ له، وحولَهُ كتبٌ كثيرةٌ، فمَدَّ ابن البوين يده إلى أحدهما، فنهره الشيخ قائلاً: "يَدخلُ الجاهلُ على الإنسانِ؛ فَينبسطُ ويقرأُ ما عنده من الكتبِ-أي أني من أهلِ العِلم-ما أحوجك ما يكون في يدك فوقها". فألقى ابن البوين الكتاب من يدِه، وكان .. كتاب "العصا". فاشتدَّت عند أُسامة الرغبة في اقتناء هذا الكتاب، فظلّ ستين عاماً يبحثُ عنه في كلّ مكان، ويَسأل عنه كلّ إنسان، فلم يُوفّق إلى الاهتداء إليه، ولم يَقِف على مَنْ وقَع بصره عليه؛ فدفعهُ اليأس إلى تأليفِ كتابهِ.

وكتاب العصا \ تأليف أسامة بن منقذالكناني الكلبي الشيزري المتوفى سنة (584هـ)؛

طبع بتحقيق حسن عباس؛تقديم محمد مصطفى هدارة؛

نشراالهيئة المصرية العامة للكتاب، فرع الإسكندرية 1398هـ/1978م

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير