تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الفصل التاسع: في زهده. عرّف الإمامُ السنوسيُّ الزهدَ في شرحه على العقيدة الصغرى بقوله: «ونعني بالزهد: خلوَّ الباطن من الميل إلى فانٍ، وفراغُ القلب من الثقة بزائلٍ، وإن كانت اليدُ مغمورةً بمتاع حلالٍ فعلى سبيل العارية المحضَة، وتصرُّفه فيه بالإذن الشرعي تصرُّفَ الوكالة الخالصة، ينتظر العَزْلَ عن ذلك التصرُّفِ بالموت أو غيره مع كل نَفَسٍ، وذلك ينفي عن النَّفْس التعلّق بما لا بدّ من زواله.»

وقد بيّن الملالي تحقق اتصاف الإمام السنوسي بهذه الصفة الجليلة قائلا: «وأمّا زهده رضي الله عنه في الدنيا، والإعراض عنها وعن زهرتها، وبغضه لها أشد البغض، فمعلوم ضرورة عند الخاص والعام؛ قال ابن عطاء الله رضي الله عنه: يُستدل على الزهد في الدنيا بالزهد في الرئاسة، ويستدل على الزهد في الرئاسة بالزهد في الاجتماع بأهلها. ولا شك أن شيخنا وبركتنا سيدي محمد السنوسي ـ قدّس الله روحه، وأسكنه من الجنان فسيحه ـ قد زهد في الرئاسة، وزهد في الاجتماع مع أهلها، ولا شيء أبغض إليه من الدنيا وأهلها؛ ولقد بعث إليه السلطان أبو عبد الله ـ حفظه الله تعالى ـ يوما رسولاً، وطلب من الشيخ أن يأخذ شيئا من غلاَّت مدرسة سيدي الحسن أبركان رحمه الله تعالى، فامتنع الشيخ من ذلك، فبعث إليه ثانيا، فأبى أن يقبل شيئا، فلمّا ألحّ الرسول على الشيخ، كتب الشيخ كتابا إلى السلطان ـ حفظه الله تعالى ـ نصه:

«الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله؛ من عبد الله تعالى الفقير إليه محمد بن يوسف السنوسي ـ لطف الله تعالى به ـ إلى أمير المؤمنين ـ حفظه الله تعالى وأمده بتوفيقه وتسديده وجعله بفضله في الدنيا والآخرة من خيار عبيده ولطف به وختَم له بالحسنى عند موته ومفارقة دنياه وقريبِه وبعيده ـ، بعد السلام عليكم ورحمة الله والبركة، فقد وقف علينا الفقيه الحسيب الأمين النصيح في خدمتكم الكيِّس اللبيب السيد أبو عبد الله محمد العبّادي ـ جعله الله وزير صِدْقٍِ ومُعِينَ حَقٍّ، وخلَّص الجميع من شباك الدنيا وسراب غرورها المارّ مرّ السحاب خلاصا جميلا ـ، فذكر لنا أنكم اهتممتم بنا فيما يرجع إلى هذا العيش الدنيوي القريب وأنكم عرضتم علينا الإعانة بشيء من غلاّت المدرسة الجديدية، فجزاكم الله تعالى على ما اهتممتم به أفضل الجزاء، ولقّاكم به خيرا وسرورا يوم الموت واللقاء، ونحن نُعلِمُكم يا أمير المؤمنين أن الله تعالى بفضله كفانا الضروريات في هذا المعاش، ورزقنا عند الاحتياج من حيث لا نحتسب، وأنعم علينا بطَوْله أن خَلَقَ لنا الراحة من ذلك في قلوبنا وأبداننا، ونحن نتقلّب في أنعم مولانا جل وعزّ ظاهِرًا وباطنًا مع عدم الأهلية ـ والله ـ لشيء من ذلك، بل الذي نتحققه ونقطع به وجود الأهلية منا للمعالجة بغضبه وعقابه، لكن بحلمه وكرمه عامل من ليس من المتقين معاملة المتقين، فلله الحمد تبارك وتعالى ظاهرًا وباطنًا أولاً وآخرًا، فليُرجِع أمير المؤمنين ـ سدّده الله تعالى ـ خاطِرَه من قِبَلنا ولا يتشوَّفْ إلى شيء من إمدادنا في هذا العيش الدنيوي وإعانتنا، فنحن قد أغنانا مولانا تبارك وتعالى عن ذلك، ومن لم يقتنع في الدنيا بالقليل لم ينفعه منها الكثير، والعاقل من اغتنم كفايته وقته الخالي لطاعة الله تعالى وأعْرَض عن المستقبل، إذ لعله لا يَصِلُ إليه، وإن وصل إليه فخزائن مولانا الكريم لا تبيد ولا تغيض، ثم الذي نعتقده أن تلك المدرسة لا حقَّ لنا فيها اليوم إذ لسنا نعمّرها بقراءة ولا سكنى ولا خدم لنا فيها بوجه، فمشاركتنا لذوي الحقوق فيها وتضييقنا عليهم بالأخذ معهم جَوْرٌ منا وحرص منا وتكاثر؛ إذ المقصود كفاية المهم الحالي، وقد حصلت والحمد لله تعالى، فلا حاجة لنا في أخذ شيء ـ ولو قُدِّر حلالا محضا ـ من مدرسة ولا من بيت مال، وعلى تقدير أن يأتينا شيء من هذه الجهات فلا نقبله ولا يصفو لنا في الآخرة خيره، وكل عيش لا يسلم الإنسان من تبعاته في الآخرة فهو فتنة وشر عظيم، وكل من في الدنيا ضيف عابر سبيل في سفره لا فترة معه إلى الآخرة وكان كل واحد منا قد حلّ في حفرته وانفجرت عليه بوابة الآخرة وأهوالها عن قريب، فلا يليق الاهتمام إلا بزاد الآخرة الذي لا نجاة إلا معه إلا بفضل الله تعالى، نسأل الله تعالى أن يوفقنا ويوفق أمير المؤمنين لصرف الهمة كلها لزاد الآخرة، وأن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير