تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم ساق الملالي طرفًا من مواعظه الجليلة، إلى أن قال: «وسمعته رضي الله عنه يقول ما معناه: جاء ولي من أولياء الله ـ تعالى ـ إلى بعض الأمراء، فقال الأمير وقد رأى عليه لباس الزهد: ما لكم تزهدون في الدنيا؟! فقال الوليُّ للأمير: أنتم أزْهَد منّا. فقال له الأمير: ومن أين ذلك؟ قال له: لأنّ زهدنا إنما هو في الدنيا، وزهدكم أنتم إنما هو في الآخرة. قال: فلمّا افترقا تأمل الأمير ما خاطبه به الوليُّ، فوجد كلامه كأنه قال: أنت أحمق ونحن عقلاء؛ لأنك زهدت في شيء نفيس لا قيمة له؛ لشرفه، ونحن زهدنا في شيء قليل جدا لا قيمة له؛ ليسارته وخسته، ولا شك أن من بذل شيئًا خسيسًا ليأخذ عنه عوضًا لا قيمة له؛ لشرفه، هو الذي يقال له إنه عاقل حقيقة، كما هو شأن هذا الولي وغيره من الأولياء، ومن بذل شيئا نفسيا لا قيمة له؛ لشرفه، في شيء خسيس هو الأحمق حقيقة، كما هو شأن هذا الأمير وغيره. ثم قال الشيخ السنوسي: فانظر ما أبلغ وعظ هذا الولي وما أحسنه وما انطوى عليه كلامه الموجز من نسبة الحمق والسفه للأمير على وجه لا عتاب فيه ولا غلظ عبارة.»

الفصل الثالث عشر: في ولايته لله تعالى. عرّف أئمة أهل السنة الولي بقولهم: «هو العارف بالله تعالى وصفاته، المواظب على الطاعات، المتجنب عن المعاصي، المُعرِض عن الانهماك في اللذات والشهوات» وهذا التعريف قد ارتضاه الإمام السنوسي وأقرّه في شرحه على «كفاية المريد»، وزاد في شرحه على العقيدة الوسطى ذكر شروط الولاية بذلك المفهوم عند أهل السنة استنادًا إلى قول الشيخ ابن دهاق في «شرح الإرشاد»: للولي أربعة شروط:

ـ أحدها: أن يكون عارفًا بأصول الدين حتى يفرِّقَ بين الخلق والخالق، وبين النبيِّ والمدعِي.

ـ الثاني: أن يكون عالما بأحكام الشريعة نقلا وفهما ليكتفي بنظره عن التقليد في الأحكام الشرعية كما اكتفى عن ذلك في أصول التوحيد، فلو أذهب الله تعالى علماء أهل الأرض لوُجد عنده ما كان عندهم، ولأقام قواعد الإسلام من أولها إلى آخرها؛ فإنه لا يفهم من قولنا ولي الله إلا الناصر لدين الله تعالى، وذلك ممتنع في حق من لا يحيط علما بدين الله وقواعده وأصوله وفروعه.

ـ الثالث: أن يتخلق بالخلق المحمود الذي يدل عليه الشرع والعقل؛ فأما ما يدل عليه الشرع فالورع عن المحرّمات وامتثال جميع المأمورات، وأما ما يدل عليه العقل فهو ما يُثمِرُه العلم بأصول الدين، وهو أنه إذا عَلِم حدوثَ العالَم بأسره لم يتعلق قلبُه بشيء منه خوفًا منه ولا طمعا لعلمه أنه في قبضة الله سبحانه وتعالى، وإذا علم الوحدانية أخلص لله تعالى في سائر أعماله؛ إذ الربوبية لا تحتمل الشَّرِكة في شيء، وإذا علم أنّ القَدَرَ سابقٌ بكل ما هو كائن لم يخف فَوْتَ شيءٍ مما قُدِّرَ ولم يَرْجُ نَيْلَ شيءٍ مما لم يُقَدَّر، وهذا هو المُعبَّرُ عنه بالرضا بالقدر، وخرج من ذلك الرفق بالخلق والصفح عنهم عند إذايتهم له لعلمه أنهم لا يستطيعون لأنفسهم ـ فضلا عن غيرهم ـ دَفْعَ ضَرٍّ ولا جَلْبَ نَفْعٍ.

ـ والرابع: أن يُلازِمَهُ الخَوْفُ أبدًا سرمدًا، ولا يجد لطمأنينة النفس سبيلا؛ فإنه لا يحيط علمًا بأنه من فريق السعادة في الأزل أو من فريق الشقاوة، ثم ينظر إلى أسباب الشقاوة وأماراتها فيجدها منحصرة في المُخالَفات فهو يَخافُ الوقوع فيها ويجتنبها وهذا هو المُعبَّرُ عنه بالوَرَع، وما حصل له من الموافقة فهو يخاف زوالها بأضدادها حتى يخاف أن يُبدَّل عِلمُه وفَهْمُه إلى الشك والجهل، وكذا يخاف أن يطالبه ربُّه بالقيام بشكره فيما أنعم عليه فلا يطيق ذلك، وكذا يخاف أن تخدعه نفسه فيحصل في عمله ما يفسده ويحبطه من الرياء والسمعة والعجب، وكذا يخاف من توجه حقوق عليه للآدميين فتُنقَل أعمالُه إلى صحائفهم، وهذه أحوالهم وتفاوتهم على حسب الحضور في أبواب القربات وأعمال الخيرات، والله يرزق من يشاء بغير حساب.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير