لم تأت الدعوة إلى المصالحة في القرآن الكريم بخطاب نظري مجرد, بل اعتمدت على الجمع بين النظرية والتطبيق, إن القرآن الكريم وضع المبادئ والتشريعات والأخلاق والآداب والأجزية اللازمة لتحقيقها من جانبي الوجود والعدم.
1. كيفية تحقيق المصالحة من جانب الوجود:
لتحقيق المصالحة من جانب الوجود, دعا الشارع الحكيم إلى الكثير من المبادئ والأخلاق والتشريعات نكتفي بذكر أهمها:
• التسامح: يعتبر التسامح في الخطاب القرآني الوسيلة المثلى لتحقيق المصالحة, قال تعالى: " فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" [فصلت:34]. وقال أيضا: "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا" [الفرقان:63].
• العفو والصفح: فإنهما من أهم الطرق المفضية إلى تحقيق المصالحة وقد جاء الحث عليها في الكثير من الآيات منها:
- قوله تعالى:"وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ" [البقرة:237].
قوله تعالى:"َالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ" [آل عمران:134].
قوله تعالى "فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ" [البقرة:109].
- قوله تعالى:"وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" [النور:24].
العدل والإحسان:
قال تعالى: "وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً" [البقرة:83]. وقال أيضا:". "وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [البقرة:195] أما العدل فيقول عز وجل:" "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ" [النحل:90].
• الشورى:
يقول عز وجل:"وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" [الشورى:35].
• الأخوة الإيمانية:
إنها من أهم طرق تحقيق المصالحة قال عز وجل: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" [الحجرات:10]. فالمصالحة كما يقول أحد العلماء:" .... اصطلح بها المتخاصمون واجتمع عليها المتفرقون فليست عداوات الجاهلية ... وأصبح المرء يجلس آمنا مطمئنا في ملإ أو خلوة مع من قتل أباه أو أخاه وهو لا يخشى انتقامه ولا يتوقع أذاه" (2).
• الوحدة الإنسانية:
إن الله عز وجل جعل الناس سواسية في إنسانيتهم وكرم جميعهم بالعقل فهم من أب واحد وأم واحدة, كلهم لآدم وآدم من تراب, وهذه من المبادئ التي تخدم المصالحة بين الناس وتجعلهم يقبلون على حب بعضهم بعضا, مؤمنون بأن رابطة الإنسانية تشدهم إلى بعضهم بعضا, قال تعالى:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" [الحجرات:13].
• الاعتراف بالآخر والتواصل وقبول الحوار معه:
لتحقيق المصالحة مع غير المسلمين دعا الخطاب القرآني إلى الاعتراف بالأخر والتواصل معه, قال تعالى:"لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" [البقرة:256]. وقال أيضا:"أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ" [يونس:99]. وقال أيضا:"لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [الممتحنة:8 - 9].
2. كيفية تحقيق المصالحة من جانب العدم:
لتحقيق المصالحة من جانب العدم أمر الشارع الحكيم باجتناب الأخلاق الذميمة والمعاملات المحرمة والضارة التي تعكر صفو العلاقات بين الناس ووضع الجزاء الصارم على الفرقة والاختلاف وعلى كل من تسول له نفسه زرع البلبلة والفتنة في المجتمع. وتتمثل فيما يلي:
• الأخلاق الذميمة المناقضة والنافية للمصالحة:
¥