فإن بلغ بالمرء الشك إلى هذا الحدّ، فعليه أن يحرص على مداواة نفسه، بالنظر في الأدلّة العقليّة على نبوّة النبي –صلى الله عليه وسلم-، والتي يأتي على رأسها القرآن الكريم، المتضمّن لأهمّ دلائل نبوّته –صلى الله عليه وسلم-: من إعجاز بلاغي، وإعجاز تشريعي، وإعجاز غيبي، وإعجاز علمي، وغيرها. مضافًا إليها بقيّة الأدلة؛ كسيرة النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، وسنته الثابتة الصحيحة.
وبشارات الأنبياء السابقين به –صلى الله عليه وسلم- والموجودة في كتب اليهود والنصارى إلى اليوم!
فإن النظر في أدّلة النبوّة هو الكفيل في أن يعود المرء، إلى نداء فطرته، وإلى الحق الذي تتعّطش النفوس إلى معرفته: وهو أن دين الإسلام هو دين الله تعالى الذي لا دين له سواه "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [آل عمران: 85].
فإذا ما تيقن المرء بنبوّة النبي –صلى الله عليه وسلم- وأيقن بناءً على ذلك بأن القرآن كلامُ الله المنزَّل على محمد –صلى الله عليه وسلم- فإنه سوف يُوقنُ أيضاً بأنّ السنة النبويّة محفوظة من الزيادة والنقصان، ومن اختلاطٍ يؤدي إلى عدم تمييز الثابت منها بغير الثابت؛ لأن القرآن الكريم قد دلَّ على وجوب حفظ السنة، كما سبقت الإشارة إليه.
فإذا وَصَلَ المسلمُ إلى هذه الحقيقة: وهي أن السنة محفوظة، وأنها ستبقى محفوظةً ما بقي دينُ الإسلام، إلى قيام الساعة= فقد وصل إلى الحقيقة الهادية له في هذا الموضوع، وقد حصل على الضمان الذي سيحميه من الشكوك المهلكة لدينه. وعندها سنسأل هذا المسلم الذي أيقن بحفظ الله للسنة، ما هو أولى كتب السنة أن يكون قد حفظ لنا السنة المحفوظة بدلالة القرآن على حفظها؟ ما هو ذلك الكتاب الذي يمكن أن يكون قد تحقّق فيه موعود الله تعالى بحفظ دينه القائم على الكتاب والسنة؟ لن يجد المسلمُ (ولا غيرُ المسلمِ العارفُ بتاريخ علوم السنة) إلا جواباً واحداً: وهو أن أوْلى كتاب بجواب السؤالين السابقين: هو كتاب (الصحيح) للإمام البخاري عليه رحمة الله، ويليه كتاب (الصحيح) للإمام مسلم، فهما أصحّ كتب السنة بإجماع أهل السنة!!
ولذلك كان التشكيك في جُملة ما في الصحيحين، وعامّة ما في هذين الكتابين الجليلين تشكيكاً في السنة كلّهَا. وبالتالي فإنه يعود على الطعن في القرآن الكريم نفسه .. ليكون هذا السبيلُ هو سبيل الخروج عن الدين، والذي سبق ذكر دوائه آنفاً.
إلى هذا الحدّ تبلغُ خطورة الطعن في جملة أحاديث الصحيحين وعامة السنن الواردة فيهما، ممّا سيدلّ الأخ السائل على وجوب مراجعة نفسه أشدّ المراجعة، ومحاسبتها أدقّ المحاسبة، قبل أن يصل إلى هذا الحدّ البالغ الخطورة!
ومن أوّليّات مراجعة النفس الصادقة، ومن الأمانة في محاسبة النفس: أن لا يخوضَ المرءُ في علم يجهله، وأن لا يتكلَّم فيما لا يحسنه. فكما لا يحق لي أن أشكّك في علم الجينات الوراثيّة، لمجّرد أني التقطتُ معلومة من هنا وهناك، دون دراسة متعمّقة متخصّصة، وكما لا يصح أن أُجَادل علماء الآثار والحفريّات في النتائج التي توصّلوا إليها، ما دمت غير مشارك لهم في التخصُّص الذي دقّقوا وتعمّقوا فيه= فكذلك لا يحق لي أن أخالف علماءَ السنّة، ولا يصح أن أعارضهم، ما دمتُ غير عالمٍ بعملهم، ولا معرفة لي بدقائقه الكثيرة وبأعماق علومه العديدة.
إن علوم السنة النبويّة التي وضَعها علماء السنة لنقد المرويّات قد بلغت في كثرتها ودقّتها مبلغاً أدهش كل من تعرّف عليها، حتى من غير المسلمين الذين اطّلعوا على بعض جوانب عظمتها، وبالغ موضوعيّة منهجها النقديّ، وقوّة وسائله في التحرّي والاحتياط للسنة.
وإنّي إذ أتحدّث عن علوم السنة بهذا الحديث، والذي أعلنُ من خلاله أن دقّة علوم السنة وعمقَها وصدقَ نتائجها لهو وحده دليلٌ كافٍ (لمن عرفها) أن السنة محفوظةٌ مصونة من النقص أو الزيادة ومن الاختلاط غير المتميِّز. ولا أعلن هذه الحقيقة التي أرى أدلّتها في علوم السنة أمامي كما أرى المُحَسّاتِ التي أمامي تماماً؛ لأني أريد من الناس أن يقلدوني في هذا الإيمان الذي استفدتُه من علوم السنة؛ فإني أعلم أن هذا ليس منهجاً صحيحًا في الجدل وإقامة الحجّة. ولكني إنما أعلنُ هذه الحقيقة؛ لأني أتمنَّى ممّن كان في قلبه شك في هذه العلوم، أن
¥