فلا شك عند كل ذي عقل مجرب أن السبحة من الأشياء المعينة جدًّا على الذكر، فلا تكاد ترى أحدًا ممن يمسكون المسبحة في أيديهم إلا وهو يحركها ويذكر الله، ثم عند النظر لا يوجد دليل واضح الدلالة على أن السبحة بدعة أو حرام، وحديث أبي موسي عند الدارمي وهو قصة القوم الذين كانوا يسبحون على الحصى لا دلالة فيها أصلًا لأشياء منها:
أولا: أنه قول صحابي وليس هو بحجة على الأصح من أقوال الأصوليين.
ثانيًا: أن ابن مسعود رضي الله عنه ما أوضح لهم وجه الإنكار بخصوص عمل معين من أعمالهم، وإنما أنكر العمل كله، وقد كان هناك أكثر من مخالفة كاجتماعهم على الذكر ووجود أمير للذاكرين يأمرهم بعدده "سبحوا مائة" ثم هم خوارج، كان لهم غير ذلك من المخالفات التي لعلها بلغت ابن مسعود رضي الله عنه أو تفرس فيهم فأنكر عليهم، ولو كان هذا الأمر غير معهود (التسبيح على الحصى) لما سكت أبو موسي رضي الله عنه ولجزم ببدعيته بادي الرأي، لكن الظاهر أنه استشكل الأمر من أجل أن التسبيح على الحصى معهود لكن التجمع له غير معهود فلعله أن يكون بمثابة الاجتماع على العلم أو لعله بدعة، فمن ثم استشكل الأمر وإنما حملت الأمر على ذلك للأدلة التي أسوقها بعد إن شاء الله وأما قوله: "عدوا سيئاتكم" فليس فيها حجة حيث هو مخرج على اجتهاد ابن مسعود، وقد ذكرت الرد عليه أعلاه ثم إنه لمن علم أساليب اللغة أن ذلك أسلوب تبكيت ولا دلالة فيه أبدًا كما هو واضح ولله الحمد والمنة.
أقول: وحيث إن كل المجلس كان مخالفًا أو منكرًا عليه ولا ندري أي شئ كان فيه صحيحًا فعلينا إذًا أن ننظر في كل فعل على حدة حتى نعلم وجه إنكار ابن مسعود رضي الله عنه، ومسألتنا التي ننظر فيها هي التسبيح على الحصى هل أنكرها ابن مسعود أو لا؟ فنحتاج إذًا إلى دليل خارجي يبين هل الفعل جائز أم لا؟ وهل هو داخل في إنكار ابن مسعود ضمنًا أو أصلًا؟ فإليك أدلة تفيد أن التسبيح على الحصى لا شئ فيه:
أولًا: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان له ألف حصاة يسبح عليها ثم يأمر الخادم فيجمعها كل يوم من تحت قدمه بعد التسبيح عليها. هذا أورده الذهبي في السير وسكت عليه والمعلوم أن الذهبي يناقش فكأنه أقر ذلك. انظر السير جـ2 صـ623
ثانيًا: أن النووي قال في المجموع في مسألة السبحة يكون خيطها حرير هل يجوز التسبيح عليها أو اتخاذها؟ فعرض الأقوال في المذهب ومال إلى الجواز ولم يتعرض للسبحة من حيث البدعية أو الجواز مما يدل على أنه أقرها. انظر المجموع جـ4 صـ380
ثالثًا: أن الحافظ ابن حجر أقرها في الفتح عند ذكر التسبيح فقال: على اليد أو غير ذلك بل قد ذكر عنه أنه كان يسبح عليها لا تفارق كمه. انظر الفتح جـ2 صـ382 ولم أر تعليقًا للشيخ ابن باز على حاشية هذه الصفحة.
رابعًا: ترجم ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية في أكثر من موضع لبعض الصالحين الأفاضل الأكابر أنهم كانوا يستعملون السبحة وسكت دون نكير.
خامسًا: ذكر الشيخ عبد السلام الشقيري في كتابه السنن والمبتدعات عند إيراده بعض الاعتراضات على بعض البدع وهو موضوع كتابه، فلما أورد مسألة السبحة ما كان اعتراضه فيها إلا أن قال: "وترى حامل السبحة يطقطق بها رياءًا وسمعة". قلت: فلم يعترض على السبحة وإنما أورد الاعتراض على الرياء والمجاهرة بالأعمال وهو اعتراض تربوي حسن.
سادسًا: ذكر العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع أن من كان ينسى في الصلاة أصلى ثلاثًا أو أربعًا زيادة أو نقصًا قال الشيخ: له أن يحمل أربع حصيات أو نوى في جيبه، وكلما صلى ركعة ألقى نواة، فإذا نسي كم صلى نظر أمامه فعلم من عدد النوى، قلت: وهذه الإجابة هي عين إجابة الشيخ عطاء حفظه الله، فإنه يقول: إن هناك أورادًا لا يحسن المرء عدها على يديه أو على الأقل ليس كل الناس يحسن ذلك ومن ثم تظهر أهمية السبحة. قلت: ومصداق كلام الشيخ عندي قد حدثني بعض الإخوة أنه يخطئ في تسبيح ما بعد الصلاة وهو ثلاث وثلاثون كما هو معلوم فكيف بأوراد المائة أو من أراد أن يزيد على ذلك؟! انظر الشرح الممتع جـ3 صـ344.
¥