وكان الأستاذُ أديب رجلاً طويلاً، دائمَ الابتسام، عظيمَ التواضع، وكان يتمتَّع بخُلق كريم، واحترام للآخرين، والتزام بالإسلام في تصرُّفاته كلِّها، وكان ينظر إلى الأمورِ العامَّة والخاصَّة مِن خلال اتِّجاهه الإسلامي السَّليم، البعيد عن الخُرافة والبِدَع.
وكان داعيةً إلى الله بالحِكمة والموْعظة الحَسَنة.
وقد أنشأ ناديًا للدَّعوة إلى الله في حيِّ الميدان، وكان في أوَّل الأمر في قاعةٍ واسعة من جامع الدَّقَّاق، وهو من المساجد الكبيرة في دمشق.
وكان لهذا النادي أثرُه الكبيرُ في الدَّعوة إلى الله، وفي توعية الناس، وتذكيرِهم بواجبهم الدِّيني في أنفسهم وفي المجتمع، وكان لفلسطينَ النصيبُ الأوفرُ من التذكير.
وكان هذا النادي يدعو عددًا من كِبار العُلماء ورجال الفِكر؛ ليحاضروا في موضوعاتٍ إسلاميَّة في قاعته، فقد كان كثيرٌ من المثقَّفين في تلك الأيَّام لا يَهتمُّون بالأمور الدِّينيَّة، بسبب تأثُّرِهم بالمدارس الفِكريَّة الغربية الحديثة، وقد أدركتُ ذلك جليًّا في عدد من الأساتذة الذين درَّسوا لنا.
فكان النادي يأتي بعددٍ من المفكِّرين الإسلاميِّين لإلقاء محاضراتٍ فيه؛ مِن أمثال الأستاذ أحمد مظهر العظمة، والأستاذ صلاح الشاشي، والأستاذ محمد المبارك، والأستاذ مسلم الغنيمي، وأمثالهم.
وهؤلاءِ جيلٌ من المثقَّفين جَمَع بينَ الثقافة العصريَّة والثقافة العِلميَّة الإسلاميَّة، واتصف بالتديُّن الصادق.
وكذلك فَقَدْ كان يُدعَى العلاَّمةُ الشيخ محمد بهجة البيطار إلى النادي للتوجيه والمحاضرة، وهو خطيب هذا الجامع.
ثم انتقل هذا النادي إلى مكانٍ آخرَ، واستمرَّ مدَّة من الزمان.
وفي 10 من ربيع الآخر من عام 1372هـ (الموافق لـ2تشرين الثاني سنة1952م) أُرسِل الأستاذ في جولةٍ تفتيشيَّة إلى حلب، فركب الطائرة متوجِّهًا لإنجاز المهمَّة التي كُلِّف بها، ولكن الطائرة سقطتْ في الطريق، فاستُشهد مع رُكَّابها كلِّهم.
لقد كان يومُ وفاته يومًا حزينًا في دمشق، وكانت جنازته جنازةً ضخمة جدًّا، وخَيَّم الحزن على البلد الذي فقَد شابًّا مِن خيرة شبابه، ورائدًا من رُوَّاد الدعوة إلى الله.
وصادف أنَّ الأستاذ الكبير، والأديب الذَّواقة، والكاتب الشهير، والمفسِّر المبدع، العلاَّمة سيِّد قطب - كان في زِيارة لدمشق يومَ وقعتِ الفجيعة بالأُستاذ الأديب.
وكنتُ أتردَّد على زِيارة الأستاذ سيِّد في فندق (أوريان بلاس)، وتشرفتُ بمرافقته في بعض تنقُّلاته وزياراته، وقد عملتُ على أن يُلقيَ في كلية الآداب - التي كنتُ طالبًا فيها - محاضرةً في دراسة نصٍّ قرآني، ووفََّّق الله، وكان ذلك، والحمد لله، وكانت محاضرةً رائعة دَرس فيها آياتِ الصدقة في سورة البقرة.
فعرضتُ على الأستاذ سيِّد الذَّهاب إلى تعزية آل هذا الفقيد الكبير، فوافق على هذا العرْض، وذهبتُ بمعيته إلى موضع العزاء، وكان لمواساته وتعزيته وقعٌ كبير، وكنتُ حدَّثتُه في الطريق عن مزايا الفقيد، وأنَّه تُوفي صغيرَ السِّن، وفي بيت العزاء ألْقى الأستاذ سيِّد كلمةً موجزة جدًّا، قال فيها ما معناه: إنَّ الفقيد - رحمه الله رحمة واسعة - على ما علمتُ أنجز أمورًا جليلة، على الرَّغم مِن قصر حياته، وقال: هذا مشاهَدٌ في عدد من النوابغ الدُّعاة الذين يُنجزون أعمالاً جليلة في مدَّة قصيرة، كأنَّ كلاًّ منهم قد عاش عمرًا مديدًا.
وقد حضرتُ ندوةً أقامتها ثانوية الميدان في قاعة المحاضرات، في ذِكْر فضائله ومزاياه الكريمة التي اختصَّه الله بها.
وكانتْ هذه الندوة يومَ الخميس 21 جمادى الأولى سنة 1372هـ (الموافق لـ5 من شباط سنة1953م)؛ أي: بعد مرور أربعين يومًا على وفاته، وكانت الندوةُ عامرةً بذِكْر تفاصيل حياته، والمواقف المهمَّة التي وقفها، فكان لها الأثرُ الكبير في بلده، وفي الفِكر الذي دعا إليه ونشره.
وإنَّني لأتمنَّى الآن لو أنَّ هذه الندوةَ قد سُجِّلت، لو كان ذلك لأمدتْنا كلماتُ المتكلِّمين فيها بكثيرٍ من المعلومات القيِّمة عن حياة هذا الإنسان الفاضل الكريم.
وقد افتتحتْ بعشر من القرآن الكريم، ثم كانت كلمةُ المَدْرسة وحيِّ الميدان لشيخنا العلاَّمة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار - رحمه الله.
ثم كانت كلمة مكتب تفتيش الدولة للأستاذ أحمد مظهر العظمة، ثم كلمة مكتب التفتيش المالي للأستاذ هشام الغزي.
ثم كانت كلمة أصدقاء الفقيد للدكتور/ يسار بهجة البيطار، ثم كلمة أسرة الفقيد للأستاذ/ سهيل المهايني.
وكلُّهم قد أشادوا بخُلُقه الرفيع، وحِرْصه على الخير، ودعوة الناس إليه، وبخِدْمَاته الجليلة في مجال عملِه الرسميِّ، والدَّعوة إلى الله.
رَحِم الله أديبًا رائدًا من رُوَّاد الدعوة الإسلاميَّة الحديثة في بلاد الشام، رحمه الله رحمة واسعة، وغَفَر له، وجَزاه على عمله في الدَّعوة إلى الالْتزام بأحكامِ الشريعة وتحكيمها والاحتكام إليها، وعلى دعوته إلى فِعْل الخير ومساعدةِ الفقراء المحتاجين والإحسان إليهم، جزاه على ذلك كلِّه خيرَ الجزاء.
والحمد لله ربِّ العالمين
¥