وأختار كثيراً من مقطوعاته الجميلة اللواء علي الغامدي في (ألحان من غامد وزهران) وسواهم كثير جداً.
لن تجد بينها كلاماً ساقطاً أو فاحشاً , أو تملقاً مقيتاً , أو هجاء بدون فائدة دينية غالبة , لن تجد إلا حِكَماً تسيل كما يسيل الشهد المذاب , ومعاني تتدفق كما تتدفق عاطفة الأم الرحيمة.
(علي بن جَمَّاح) فارس الكلمة وشاعر الملحمة ومبدع المنطقة , يعيش بين الناس بقلبه وعقله وجسمه , تراه في المجالس العامة المتواضعة يتحدث مع الكبير والصغير , ويراه الناس بين العلماء أو القضاة وله قدرٌ وهيبة فقد كان ذا عقل راجح وكان مشاركاً في العلوم حافظاً للقرآن , أو تراه في مجلس شيخ القبيلة في صدر المجلس يستشار في مسائل القبيلة ومشاكلها فليس من سوقة الناس وصغارهم , لطالما تترست به القبيلة وجعلته في مقدمة الوفود ليقول من حكمه أو قصائده , ولطالما أذعن الشعراء والقبائل لحكمته وبلاغته , وتراه بعد ذلك كله مع أبنائه وأسرته فتجده الأب الحاني الرقيق الذي سارت بقصائده الركبان في الرحمة والشفقة.
تعقد المناطق الجبلية أسواقاً أسبوعية على مدار الأسبوع , تبتعد الأماكن ليتبادل الناس المصالح والتجارات , وتحمي كل قبيلة سوقها وترعى شؤونه , وهذه القبيلة التي ينتمي لها ابن جمّاح سوقها يوم السبت من كل أسبوع.
في بعض المناسبات يراه الناس مقبلاً للسوق ضحى كما هو المعتاد وقد لبس عباءته وتقلد سيفه أو بندقيته وتحزم بخنجره , تتسابق الأنظار إليه , يلبس الناس مثل ذلك عادة , ولكنّ حركات بن جمّاح الشاعر غريبة اليوم , فلم يفعل ذلك إلا لأمر , يبدوا عليه الاهتمام والجدية اليوم , يتقدم بين أصناف البضائع المطروحة على الأرض و يسارع البعض بتقبيله أو لعناقه فهي فرصة عظيمة للقياه , يسلِّم على الناس الغرباء ويرحب بهم في السوق المحلي , ويصل أخيراً لمجلس شيوخ القبائل وعرفاء السوق , لهم مكان معتاد لمراقبة السوق والتجارة ويبادلهم التحيا فيعرفون خبره وشأنه , فهو لا يتحدث إلا عن الشأن العام , الموضوع الذي يسعى فيه يحتاج لعقل حكيم أو سيف جراح محارب.
يقف على شرفة السوق بين الأمم والباعة والمشترين , فتتجه الأعناق إليه كما اتجهت العرب الأوائل في سوق عكاظ للنابغة والأعشى , أو سوق المربد بالبصرة لجرير والفرزدق, فيبين ابن جّماح للناس سبب صعوده للمنصة الرئيسية أو (مشراف السوق) كما يقال له بلهجة الناس , ويخبرهم بعد أن يهلل الله ويذكره مراراً ليجتمع الناس حوله , ثم يقول بضعة أبيات من الشعر الحكيم الذي يألفه الناس ويعرفونه , يشتمل شعره على نوعين من الأبيات فأحدهما يقال له بدع والآخر يقال له ردّ , هذه الأبيات إنما قيلت لحلّ مشكلة أو فض خصام , فيسير بها الناس أسبوعهم يتحدثون عنها وعن صدق الشاعر فيها , ثم تحملها صدورهم لتروي للأجيال القادمة هذه المشاهد والمواقف البطولية.
هكذا عرفه الناس لا يصعد للأماكن الحساسة ليتزلف لمسئول , أو يمدح تاجراً لينال من ماله , أو يبارز الله بأخبار قصائده الخمريات ولياليه الماجنة.
إنه رجل تفقده عند السيئة وتجده عند الحسنة, تفقده عند الكذب وتجده عند الصدق , ترى فيه بقايا العرب الذين مدحهم الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وأثنى على أخلاقهم , وقال عنهم النبي الكريم , (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
عاش بن جمّاح الشاعر في قلوب الناس , ولازال يعيش بقوة في ثقافة البلد والمنطقة , فربما تحدث الناس بقصائده على بعد مئتي كيل من مولده وحياته , فترى أحياناً أبناء تهامة يرددون قصائده , ويتغنى أبناء البادية بمقطوعاته , ويتحدث العالم الوقور في درسه أو مجلس تذكيره بحكم ابن جمّاح الشاعر ومواقفه وقصائده الوعظية والزهدية.
توفي بعد أن ترك مورثاً أدبياً , وبعد أن ترك أخلاقاً أصيلة عربية , وبعد أن حمده الناس وأثنوا عليه خيراً.
¥