تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وسيعلم القارئ الذي يشغلني وعيه، أي سم عنيت بالقصتين، وأية أفعى كانت كل واحدة منهما تفح وتتلوى، وسيعرف معي أن هاتين القصتين ـ بما أكلت الواحدة من لحم الأخرى ـ عليهما سمات الوضع والتخيل، وفيهما عنصر التهكم والتظرف.

كذلك مضت القصتان في آفاق الأدب ودنيا المرأة، ومضى معهما كثير من هذه الأقاويل التي نسجها الخيال واصطنعها الحقد والتشفي، على أنها حقائق راهنة وحجج دامغة على غدر المرأة وبعدها عن الوفاء.

وليس لي أن أحاسب الزعيمة الصينية التي طالما شغلتها السياسة عن مثل هذه القصة وقد جاءت بها مرددة مقلدة، وإنما أؤاخذ شيخ الساخرين فولتير بما آخذ به قريع جنسه الشاعر الفريد دوموسيه الذي قال: إن فولتير دسّ الإلحاد والفساد في نفوس الشباب بعصره. وصور الشاعر موسيه في كتاب اعترافاته كيف جنى الشعراء والأدباء بآرائهم وأهوائهم على الحقيقة والواقع.

ومن هذا القبيل ما يردده رواة الأخبار من نوادر وأحاديث يتفكهون بها ويتهكمون، على غدر المرأة ومكرها، وأنها لأقاويل تجري في إيثار وفاء الرجل فتزعم أنه وحده الوفي الأمين وأن المرأة هي الخوانة الجحود.

وتأملت إلى أية غاية من إفساد المجتمع يمكن أن تجري بالإنسانية مثل هذه الألهيات الهازلة، فيكون منها أبداً غذاء لمظنة الرجل بالمرأة ظن السوء، وقد خلقت من نفسه ليعيشا في مودة ورحمة، حتى استقر في ظن أكثر الرجال خشية من المرأة وريبة فيها، فنفروا من الزواج وآثروا الوحدة والعزوبة. وبلغ من سوء ظنهم أن ارتابوا في كل امرأة، فلو رأوها قانتة لله لقذفوها برجم الظنون، وإذا لمحوها في درب تجاوبت أصداء نفوسهم بالارتياب، فحسبوها ذاهبة للقاء عاشق، وإن أبصروها تتبسم ظنوا تبسمها شباكاً لصاحب ولم يقصروا معرتها في الزواج وإنما عمموها، فهي عندهم ماكرة غادرة في كل مرافق الحياة، وأسباب الصلات.

وانتصبت لهؤلاء المرجفين منارات دلتهم على عطفات الطريق الذي سلكوه في عداوة المرأة، وكانت تلك المنارات فلاسفة وأدباء ابتلاهم الله بالعزلة وسوء الظن والوسواس، فصرخ في أواسط أوربة شوبنهور معلناً فساد المرأة وغدرها، ملعلعاً صوته كناقوس على ميت، فأفزع رجال الغرب من النساء، وصاح في الشرق شيخ المعرة مندداً بخبث المرأة ومكرها، فصب عليها في لزومياته سوط عذاب، وجردها من كل الفضائل، وأعمها وأهمها الوفاء ... ، وكان أبو العلاء ـ يرحمه الله ـ بعيداً عن المرأة، مصاباً بالوسواس العقلي الذي جرّ عليه لوم الناقدين حين بحثوا عقيدته ودخيلته وتحيروا في إيمانه.

ولم يخل هذا العصر من لمز المرأة في وفائها كشيخ المتهكمين في الغرب برناردشو، ومثله فريق من أدباء الشرق وخاصة في مصر، فكان من دأب هؤلاء الأقربين أن يتندروا بمقالاتهم ويتظرفوا باتهام المرأة في وفائها ونهضتها، بدلاً من أن يزحزحوا العوائق دونها، ويأخذوا بيدها ويسددوا خطاها، فلو رجعت إلى هؤلاء المتندرين أو المتطيرين لرأيت في حياة كل منهم امرأة لفحت نفسه بجحيم من كيدها فراح يأخذ النساء بجريرتها تشفياً وانتقاماً.

ولكن رويد الرجال، أفكان الغدر وقلة الوفاء مقصورين على المرأة وحدها دونهم، أليس فيهم من لم يمس الوفاء قلبه، دأبه الغدر والتنكر، وما أهون عليه إذا أيسر أو تحلل من الشرع أن يفارق فينسى من كانت تألفه في المنزل الخشن.

قيدوا الرجال بقيود المرأة ثم انظروا في مواطن وفائه إن كان يظل فيها مكان لوفاء واحد ...

على أنه، وهو في بحبوحة حريته، ضنين بالوفاء إلا ما ندَر، ولو وفى لملاْ الدنيا إِشادة بصنعه، وقل أن يفي بالحياة الزوجية إذ إن في الرجال من يبني بالمرأة الجديدة والزوجة السابقة لم يغبّر كفنها، أو يفكر في الثانية وهو يمشي مطرقاً وراء نعش الأولى.

والرجل بطبعه أقدر على الغدر من المرأة وأكثر فزعاً إلى التحايل والتطاول وإلى التأويل والتعليل فيما ينقض من عهود ويخلف من وعود، وإن في مكر رجال السياسة ونكثهم للمعاهدات والوثائق لأكبر حجة للمرأة على غدر الرجال. وقد شاهدنا في حرب الأمس أية قيمة للمواثيق المحرجة والعهود المغلظة التي كانت من طواغيت العدوان والطغيان.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير