وسوف تَفنَى وهي في كرّهِا
فَقَُضَّ ما تغنمهُ في جَذَل
لا تَشْغَلِ البَال بماضي الزمان
ولا يأتي العيش قبلَ الأوان
واغْنَمْ مِن الحاضرِ لذّاتهِ
فليسَ في طبعِ اللَّيالي الأمان
قيلَ لدى الحشر يكون الحساب
فيغضب اللهُ الشديدُ العقاب
وما انطوى الرحمن إلاّ علَى
إنالةِ الخير ومَنْحِ الثواب
كانَ الَّذي صوّرني يعلمُ
في الغيبِ ما أجني وما آثمُ
فكيفَ يجزيني علَى أنّني
أجرمتُ والجرمُ قضاً مبرمُ
آتِ اسِقِني كأسَ الطِّلَى السلسلِ
وغنّني لحناً مع البلبلِ
فإنَّما الإبريق في صَبِّهِ
يَحكي خرير الماء في الجدولِ
الخمَرُ في الكأسِ خيالٌ ظريف
وهي بجوفِ الدنّ روحٌ لطيف
أبْعِدْ ثقيلَ الظَّل عن مجلسي
فإنَّما للخمر ظلٌ خفيف
بابُ نديمي ذو الثنايا الوضاح
وبيننا زهرٌ أنيقٌ وراح
وافتضَّ مِن لؤلؤِ أصدافها
فافترَّ في الآفاقِ ثغرُ الصباح
نارُ الهوى تمنعُ طيب المنام
وراحةُ النفس ولذُّ الطعام
وفاتر الحب ضعيفُ اللّظى
منطفىء الشعلةَ خابي الضرام
القلبُ قَد أضناهُ عِشق الجمال
والصدرُ قَد ضاقَ بما لا يُقال
يا ربُّ هل يُرضيك هذا الظما
والماءُ ينساب أمامي زُلال
خلقتني يا ربُّ ماءً وطين
وصغتني ما شئتَ عزاً وهون
فما احتيالي والَّذي قَد جرى
كتبتهُ يا ربُّ فوقَ الجبين
ويا فؤادي تلكَ دُنيا الخيال
فلا تَنُؤْ تحتَ الهموم الثقال
وسلّم الأمرَ فمَحوُ الَّذي
خطّت يدُ المقدار أمرٌ مُحال
وإنَّما نحنُ رخاخ القضاء
ينقلنا في اللوحِ أنّى يشاء
وكلُّ مَن يفرغ مِن دورهِ
يُلقَى به في مستقّرِ الفناء
رأيتُ صفّاً مِن دنانٍ سرى
ما بينها همسُ حديثٍ جرى
كأنّها تسألُ: أينَ الَّذي
قَد صاغَنا أو باعَنا أو شرى
سطا البلى فاغتالَ أهلَ القبور
حتى غدوا فيها رُفاتاً نَثير
أينَ الطلى تتركني غائباً
أجهلُ أمرَ العيش حتى النشور
إذا سقاني الموت كأس الحِمام
وضمَّكم بعدي مجال المدام
فأفردوا لي موضعي واشربوا
في ذكرِ مَن أضحى رهين الرِجام
عن وجنة الأزهار شفَّ النقاب
وفي فؤادي راحةٌ للشراب
فلا تَنمْ فالشمس لَمَّا يزل
ضياؤها فوقَ الربى والهضاب
فكم علَى ظهرِ الثرى مِن نيام
وكم مِن الثاوينِ تحت الرغام
وأينما أرمي بعيني أرى
مشيِّعاً أو لهزةً للحِمام
يا ربُّ في فهمك حَار البشرْ
وقصَّر العاجز والمقتدرْ
تَبعثُ نجواكَ وتبدو لهم
وهم بلا سمعٍ يعي أو بصَرْ
بيني وبينَ النفس حربٌ سجَال
وأنتَ يا ربي شديدَ المحُال
أنتظر العفو ولكنّني
خَجلان مِن علمك سوء الفعال
شقَّت يدُ الفجر سِتار الظلام
فانهض وناولني صَبوح المدام
فكم تُحيّينا لهُ طلعةٌ
ونحنُ لا نملكُ ردَّ السلام
مُعاقرو الكأس وهم سادرون
وقائمو اللَّيل وهم ساجدون
غرقى حيارى في بحارِ الُنّهى
والله صاحٍ والورى غافلون
كُنّا فَصرنا قطرة في عُباب
عشنا وعُدنا ذرّةٌ في التراب
جئنا إلى الأرضِ ورحنا كما
دبَّ عليها النمل حيناً وغاب
لا أفضح السرّ لعالٍ ودون
ولا أطيل القول حتى يبَين
حالي لا أقوى علَى شرحها
وفي حنايا الصدر سرّي دفين
أولى بهذي الأعين الهاجده
أن تغتدي في أُنسها ساهده
تَنَّفَس الصبحُ فقم قبلَ أن
تُحْرَمَهُ أنَفَاسُنا الهامده
هل في مجالِ السكون شىءٌ بديع
أحلى مِن الكأسِ وزهرُ الربيع
عجبتُ للخمّار هل يشترى
بمالهِ أحسنَ مما يبيع؟!
هوى فؤادي في الطلى والحُباب
وشَجْوُ أذني في سماعِ الرَّباب
إن يَصُغِ الخزّاف مِن طينتي
كوباً فأتْرِعْها ببرد الشراب
يا مدَّعي الزهدِ أنا أكرمُ
مِنكَ، وعقلي ثملاً أحكمُ
تَستنزفُ الخلقَ وما أستقي
إلاّ دمَ الكَرْمِ فمَن آثمُ
الخمْرُ كالورد وكأس الشراب
شفّت فكانت مثلَ وردٍ مُذاب
كأنَّما البدر نَثا ضوءَهِ
فكان حوَل الشّمس منهُ نقاب
لا تَحسبوا أنّي أخاف الزمان
أو أرهب الموتَ إذا الموتُ حان
الموت حقٌ. لَستُ أخشى الردى
وإنَّما أخشى فواتَ الأوان
لا طيبَ في الدُنيا بغيرِ الشراب
ولا شجيَّ فيها بغيرِ الرباب
فكّرتُ في أحوالهِا لم أجد
أمتعَ فيها مِن لقاءِ الصحاب
عش راضياً واهجر دواعي الألم
واعدل مع الظَالم مهما ظلَم
نهايةُ الدُنيا فناءٌ فَعِشْ
فيها طليقاً واعتبرها عدم
لا تأملِ الخِلَّ المقيمَ الوفاء
فإنَّما أنتَ بدنيا الرياء
تحمَّلِ الداءَ ولا تلتمس
¥