فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة:
لقد زادني حبا لنفسي أنني بغيض إلى كل امريء غير طائل
أخذ المتنبي هذا المعنى واستخرج منه معنى آخر غيره إلا أنه شبيه به فقال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني فاضل
والمعرفة بأن هذا المعنى أصله من ذاك المعنى عسر غامض وهو غير متبين إلا لمن أعرق في ممارسة الأشعار وغاص في استخراج المعاني وبيانه أن الأول يقول: إن بغض الذي هو غير طائل إياي مما زاد نفسي حبا إلي أي جملها في عيني وحسنها عندي كون الذي هو غير طائل مبغضي والمتنبي يقول: إن ذم الناقص إياي شاهد بفضلي فذم الناقص إياه كبغض الذي هو غير طائل ذلك الرجل وشهادة ذم الناقص إياه بفضله كتحسين بغض الذي هو غير طائل نفس ذلك الرجل عنده.
ومن هذا الضرب ما هو أظهر مما ذكرته وأبين كقول أبي تمام:
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة رعاها وماء الروض ينهل ساكبه
شيخان قد ثقل السلاح عليهما وعداهما رأي السميع البصير
ركبا القنا من بعد ما حملا القنا في عسكر متحامل في عسكر
فأبو تمام ذكر أن الجمل رعى الأرض ثم سار فيها فرعته: أي أهزلته فكأنها فعلت به مثل ما
فعل بها والبحتري نقل هذا إلى وصف الرجل بعلو السن والهرم فقال: إنه كان يحمل الرمح في
القتال ثم صار يركب عليه: أي يتوكأ منه على عصا كما يفعل الشيخ الكبير.
وكذلك ورد قول الرجلين أيضا فقال أبو تمام:
لا أظلم النأي قد كانت خلائقها من قبل وشك النوى عندي نوى قذفا
وهذا أوضح من الذي تقدمه وأكثر بيانا.
الضرب الثاني من السلخ: أن يؤخذ المعنى مجردا من اللفظ وذلك مما يصعب جدا ولا يكاد
يأتي إلا قليلا.
فمنه قول عروة بن الورد من شعراء الحماسة:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذرا أو ينال رغيبة ومبلغ نفس عذرها مثل منجح
أخذ أبو تمام هذا المعنى فقال:
فعروة بن الورد جعل اجتهاده في طلب الرزق عذرا يقوم مقام النجاح وأبو تمام جعل الموت في الحرب الذي هو غاية اجتهاد المجتهد في لقاء العدو قائما مقام الانتصار وكلا المعنيين واحد غير أن اللفظ مختلف.
وهذا الضرب في سرقات المعاني من أشكلها وأدقها وأغربها وأبعدها مذهبا ولا يتفطن له
ويستخرجه من الأشعار إلا بعض الخواطر دون بعض.
وقد يجيء منه ما هو ظاهر لا يبلغ الدقة مبلغ هذه الأبيات المشار إليها كقول ابن المقفع في باب الرثاء من كتاب الحماسة:
فقد جر نفعا فقدنا لك أننا أمنا على كل الرزايا من الجزع
وجاء بعده من أخذ هذا المعنى فقال:
وقد عزى ربيعة أن يوما عليها مثل يومك لا يعود
وهذا من البديع النادر.
وههنا ما هو أشد ظهورا من هذين البيتين في هذا الضرب من السرقات الشعرية وذلك يأتي
في الألفاظ المترادفة التي يقوم بعضها مقام بعض وذاك الاعتداد به لمكان وضوحه لكن قد
يجيء منه ما هو صفة من صفات الترادف لا الاسم نفسه فيكون حسنا كقول جرير:
أخذ أبو الطيب المتنبي هذا المعنى فقال:
ومن في كفه منهم قناة كمن في كفه منهم خطاب
الضرب الثالث من السلخ: وهو أخذ المعنى ويسير من اللفظ وذلك من أقبح السرقات
وأظهرها شناعة على السارق.
فمن ذلك قول البحتري في غلام.
فوق ضعف الصغير إن وكل الأمر إليه ودون كيد الكبار
سبقه أبو نواس فقال:
لم يخف من كبر عما يراد به من الأمور ولا أزرى من الصغر
وكذلك قوله أيضا:
كل عيد له انقضاء وكفي كل يوم من جوده في عيد
أخذه من علي بن جبلة في قوله:
للعيد يوم من الأيام منتظر والناس في كل يوم منك في عيد
وكذلك قوله:
جاد حتى أفنى السؤال فلما باد منا السؤال جاد ابتداء
أعطيت حتى لم تدع لك سائلا وبدأت إذ قطع العفاة سؤالها
وقد افتضح البحتري في هذه المآخذ غاية الافتضاح هذا على بسطة باعه في الشعر وغناه عن
مثلها وقد سلك هذه الطريق فحول الشعراء ولم يستنكفوا من سلوكها فممن فعل ذلك أبو تمام
فإنه قال:
قد قلصت شفتاه من حفيظته فخيل من التعبيس مبتسما
سبقه عبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن فقال:
وإذا شئت أن ترى الموت في صو - - رة ليث في لبدتي رئبال
فالقه غير أنما لبدتاه أبيض صارم وأسمر عال
تلق ليثا قد قلصت شفتاه فيرى ضاحكاً لعبس الصيال
وكذلك قال أبو تمام:
فلم أمدحك تفحيماً شعري ولكني مدحت بك المديحا
أخذه من حسان بن ثابت في مدحه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
¥