كأي رجل عاش في البادية، وفي مختلف المناطق متنقلا بين مكة ودمشق والعراق، وقضى وقتا في التعلم، فإنه جميع بين مختلف الثقافات التي كسبها من ثقافات عصره، وقد غلبت عليها بكل تأكيد الثقافة الدينية، إضافة إلى ما يعرفه من علوم الحرب والحيوان من خبرته وحياته في البادية، فكان ثقافته تلك الثقافة البدائية التي يملكها كل من عاش تلك الحياة البسيطة عدا تميزه عن غيره بالكتابة والقراءة في مجتمع لا يكتب أصحابه ولا يقرؤون، وقد ذكر الأصفهاني في الأغاني أن أم ذي الرمة طلبت إلى المقرئ أن يعلمه القران وأطرافا من ثقافات دينية وعلمية متنوعة ولكنه رغم ذلك، أنكر ما له من العلم مراعاة للمجتمع الذي يعيش فيه، ولتقاليده في ذلك الزمان.
ومما روي من أخباره في هذا الموضع أن حمادا الراوية قرأ عليه شعره، فرآه ذو الرمة ترك في الخط لاما، فقال له حمادا: انك لتكتب؟ فقال: اكتم عليّ ... "
وقد تعلم ذو الرمة الشعر وقوافيه وأصوله على أيدي الشعراء الجاهليين الفحول، من أمثال امرئ القيس، ولبيد بن أبي ربيعة، والمرقش، وغيرهم كثيرون، فهو راوية للراعي ومستمعا للعجاج وغيرهما من معاصريه، فكان بارعاً في رواية الشعر وحفظه، واثبات نسبه إلى صاحبه، وكان عالما بكلام أهل الجاهلية وكلام أهل الإسلام، فلا يخفى عليه أي الاثنين.
- شعره
قد كان في كثير من شعره إسلامي النزعة والعنصر، فهو يمدح بالتقوى ويهجو بالضلال، ودائما يذكر في رحلاته الصحراوية التيمم والقصر في الصلاة وتلاوة آيِ الذكر الحكيم، ويظهر انه كان كثير الاختلاف إلى مجالس الوعّاظ والمتكلمين في عصره، حتى لنراه يعتنق مذهب القدرية في العدل على الله جل جلاله وفي حرية الإرادة، ويناقش رؤبة في ذلك ويعلو عليه في نقاشه، ومما صدر فيه عن مذهبه قوله في الغزل:
وعينان قال الله كونا فكانتا فعولانِ بالألباب ما تفعل الخَمرُ
فما زلتُ أدعو الله في الدار طامعا بخفض النوى حتى تضمنّها الخِدرُ
وقد قيل إنه لا يمدح أشخاصاً (البتة) فإذا جاء عند خليفة - مثلاً - وابتدأ بمدحه لا يستمر في ذلك، بل يقول بضعة أبيات ثم يعود للطبيعة والحب والصحراء والإبل (فيشبعها) شعراً ووصفاً وغزلاً ومدحاً.
يجمع معاصرو ذي الرمة على انه كان حادّ الذكاء وانه كان كنزا من كنوز الفطنة وذخائرها الدقيقة، كما كان كنزا من كنوز العلم بالشعر القديم واللغة، وقد تخلف عن معاصريه في الهجاء والمديح، مثل الفرزدق وجرير، ولكن الطبيعة كانت نصرة له، فقد أحبها حبا جماً، وأخذت عليه لبّه، وقد وجد عشقه الحقيقي في الصحراء، فينقل مناظرها إلى شعره في لوحات رائعة، ومن ذلك انه في قصيدة له يصف الصحراء في مشاهد ثلاثة في نحو مائة بيت، ففي المشهد الأول أتن الوحش وحمارها، وهو يقودها في يوم حار إلى ماء بعيد، تصل إليه، وتهوى عليه تريد أن تشفي غلتها، فيتعرض لها صائد مختف وراء الأشجار بسهامه، فتفر على وجهها، وتطيش سهامه، ودائما تطيش هذه السهام في شعر ذي الرمة حبّا للحيوان.
أما المشهد الثاني فهو مشهد ثور الوحش في كناسه مكتنا من المطر، وقد ترامت حوله حنادس الليل ووساوسه، وتنفلت أضواء الصباح فيخرج من كناسه للرعي، وإذا بصائد قد أرسل عليه كلابه، فيمزقها إربا، وينكشف عنه همه وروعه.
والمشهد الثالث مشهد الظليم وصاحبته يرعيان بعيدا عن أفراخهما، ويكفهرّ الجو، فيسرعان إليها خيفة ان يسقط عليها برد السماء أو بعض السباع، وإن ذا الرمة في مشاهده الثلاثة يشبه الرسامين الذين يحشدون في لوحاتهم جميع الجزئيات والتفاصيل؛ فهو يجسّم صورة الحيوان وصورة الصحراء من حوله برمالها ومفازاتها وأعشابها ونباتاتها وغُدرانها، وهو إلى ذلك يبث في الحيوان مشاعر الإنسان وما يعتريه من وسواس وهواجس.
نلاحظ إذن انه كان يحمّل الحيوان مشاعر الإنسان، ومن أروع ما قاله في هذا النحو وصفه لظبية وتصويره حبها لابنها وكيف تخشى عليه السباع، فهي تبعد عنه حتى لا تدلها عليه، وعينيها مشدودة إليه، وقد امتلأ قلبها بالحنان والحب والشفقة، كقوله:
إذا استودعتهُ صفصفا أو صريمة تنحت ونصت جيدها بالمناظرِ
حذارا على وَسنان يصرعه الكرى بكل مقيل عن ضعاف فواترِ
¥