تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبجانب هذه الخاصية في وصف الطبيعة الحية نجد خاصة أخرى في وصف الطبيعة الصامتة، إذ ملأها بالحياة والحركة، وقد استعان بمناظر متحركة لتحقيق هذا، فاستعان بالسراب نهارا، فإذا بذرى الجبال تتحرك كأنها خيل طالعة أو إبل تهدى للنحر عند البيت الحرام، أو لعلها سفن تجري في الفرات، وإذا جاء الليل فإنه يرى في النجوم صورة بقر الوحش والظباء، ومن تلك الخاصية قوله:

كأنّ بلادهن سماء ليلٍ تكشّف عن كواكبها الغيومُ

كأنّ أدمانها والشمس جانحةٌ وَدْعٌ بأرجائها فضّ ومنظومُ

وله الكثير من الشعر في الطبيعة، فوصف الحرباء والحنادس، وأصوات الحيوانات، وخرج بتفسيرات وتجسيمات جميلة وفريدة، وقد غلب على معظم صوره عنصر المفاجأة، إذ يفاجئ الصياد الفريسة أو الضبع طريدته، وهكذا.

- قصّته مع مي

ان قصته مع محبوبته ميّ لا تنفصل عن شعره بشكل عام، لكنني اخصص لها هنا عنوانا منفصلا لأنها الموضوع والمرحلة الأبرز في حياة الشاعر، وفي الصحراء كان لقاؤه القدري مع الفتاة التي ظل يحبها ويتشبب بها ويتطلع إلى لقائها العمر كله.

كان ذو الرمة بدويا، وكانت مي، أو مية كما يناديها أحيانا، بدوية أيضا، وقد خرج ثلاثة شبان: ذو الرمة وشقيق له وابن عمه، خرجوا يضربون في الفلاة بحثا عن إبل ضلت من قبيلتهم، فتوغلوا في المناطق الجنوبية من اليمامة، حتى وصلوا إلى الدهناء حيث كانت تنزل عشيرة منقر.

وهناك شعر الشبان الثلاثة بالعطش، فأرسلوا أصغرهم وهو ذا الرمة إلى الخيام القريبة ليطلب السقيا.اقترب ذو الرمة من الخيام، فرأى فتاة مليحة تنحني فوق ثوب تنسجه، وسمعها تنشد أبياتا من الزجل، فتوقف البدوي الأسمر يتأمل البدوية الحسناء ذاهلاً، لكنها

أحست به، فرفعت إليه عينيها متسائلة.

قدمت مي الماء إلى البدوي الشاب وهي تقول ساخرة: " اشرب يا ذا الرمة " لأنها لمحت المعاذة التي علقتها أمه في عنقه بحبل صار باليا.

كان ذو الرمة مثل كل شاب في سنه يتطلع إلى الحب ويبحث عنه في عيون من التقى بهن من النساء، ولكنه عندما رأى مية أدرك أنه عثر على ضالته أخيرا، وراح ينشد الأشعار تشبيها بها، ويسعى إلى لقائها ليروي أشواقه فيزيد من اضطرام نار عواطفه.

إن موضوع الحب ليس سراً، فالشاعر يعلن حبه على الملأ ويبكي على مي حبيبته، فيبكي معه من يسمعه ويظلون يبكون ويذرفون الدموع ويتنهدون حزنا على ذلك الشاعر الذي يعاني من الحرمان ومن اليأس، ويتمنى الموت إذا كان سيسبقه لقاء مي واستعادة وصالها.

إن العاشق الولهان لم يكتفي بترديد الشعر حول حبيبته بل ظل يحوم حول ديارها، ومعه أصحابه، على أمل أن يلتقي بها ويستعيد ذلك الحوار العذب الذي يشتاق إليه معها.

ويروي أحد أصحابه قصة واحدة من تلك المحاولات عندما أتى إليه راغبا في استعارة واحدة من إبله، لا يتعرف على آثارها أحد من أهل مية ويركبان معا ناقة تسمى الجؤذر، حتى يقتربان من منزل مي فيتمهلان، ويراهما النساء فيخبرن مي بقدوم حبيبها، وتسعى إحداهن إلى عقد مجلس في بيتها ليجتمعوا به كلهم، وتطلب إلى الشاعر أن ينشدهن بعض أشعاره عن مي فيطلب من صاحبه أن ينشدهن إحدى قصائده:

نظرت إلى أظعان مي كأنها ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه

فأسبلت العينان والصدر كاتم بمغرورق نمت عليه سواكبه

بكى وامق حان الفراق ولم تجل جوائلها أسراره ومعاتبه

ويتكرر اللقاء، ومع تطور العلاقة يفكر ذو الرمة في خطبة مي لنفسه فيصارح أخاه هشام بذلك. ولكن الأخ الأكبر لم يتحمس كثيراً لفكرة الزواج ممن هي أرقى في السلم الاجتماعي. وكان للزواج مراسم ونفقات باهظة لا يقدر عليها فتى يتيم مثل ذو الرمة.

وأصبح على الفتى العاشق أن يغترب بحثا عن المال، فلا حل أمامه سوى الارتحال إلى العراق ومدح الأمراء والحكام، كما كان كل الشعراء في عصره يفعلون،

ليحصل على بعض المال.

طالت غيبة ذي الرمة عن مي، وعن البادية ولم تكن في ذلك الوقت وسائل اتصال كالبريد والهاتف تبرد نار العاشقة أو تمنحها القوة والصبر وتجعلها تصر على الانتظار، مهما طال. والأهل لا يصبرون كثيرا على بناتهم، خصوصا إذا ما تقدم واحد من أبناء العم لخطبتها. فيعود ذو الرمة بعد غيبة باحثا عن حبه القديم، ناشدا الوصل، ولكنه يجد أن ميًّا قد تزوجت من ابن عمها وقد رحلت عن البادية معه بعيدا عن المكان الذي عهده ذو الرمة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير