وذهب قوم من الملحدين إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند موته، والشمس نفسه والنجوم عيناه وحواسه، والعشار ساقاه، وهذا قول سوء وخيم غث ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى)).
فتأمل هذا المقطع، وانظر كيف بنى ابن عطية إنكار القول بالرمز على قاعدة (لاوجه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب لغير علة تدعو لذلك)، وياترى؛ هل سيوجد علة تُخرج الآيات عن معنى الكلام العربي؟!
لا أعتقد بوجود ذلك، وإنما ذكر ابن عطية قيد العلة ـ في ظنِّي ـ تنزُّلاً لا اعتقادًا، والله أعلم.
والكلام الذي نقله عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ لا مشكل فيه ـ إن شاء الله ـ لأن الله ـ سبحانه ـ ضرب مثلاً بالماء النازل من السماء، وابن عباس ذكر وجهًا مما يحتمله هذا المثل.
روى الطبري بسنده عن ابن عباس قوله: (أنزل من السماء ماء فسالت أوديه بقدرها) فهذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكّها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: (فأما الزبد فيذهب جفاء)، وهو الشك= (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)، وهو اليقين، كما يُجْعل الحَلْيُ في النار فيؤخذ خالصُه ويترك خَبَثُه في النار، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك).
والأمثال المضروبة فيها سعة في ذكر ما ضُربت له، مادام المثل يحتملها، لذا لا يدخل قول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في القول بالرموز كما حكاه الإمام ابن عطية رحمه الله تعالى.
وقد سبق أن نبهت على احتمال بعض الأمثال القرآنية لأكثر من صورة، انظر ( http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=8234 ) .
المقطع الثاني:
قال رحمه الله ((وأنا، وإن كنت من المقصِّرين، فقد ذكرت في هذا الكتاب كثيرًا من علم التفسير، وحملت خواطري فيه على التعب الخطير، وعَمَرْت به زمني؛ إذ كتاب الله تعالى لا يتفسَّر إلا بتصريف جميع العلوم فيه، وجعلته ثمرة وجودي، ونخبة مجهودي، فليُستصوب للمرء اجتهاده، وليُعذر في تقصيره وخطئه، وحسبنا الله ونعم الوكيل)) المحرر الوجيز الطبعة الثانية قطر (1: 9 ـ 10).
أقول: رحم الله الإمام، فما أعظمه من انشغال، لقد كان موفَّفًا في الاختيار، أسأل الله أن يختار لنا خيرًا من فضله الواسع، إنه سميع مجيب.
أيها القارئ تفكَّر، متى عاش هذا الإمام ـ رحمه الله تعالى (481 ـ 542)، لقد مات رحمه الله، وبقي أثره الطيب بيننا ننهل منه، إن في ذلك لعبرة، عبرة لمن يمنُّ الله عليه بالتأليف والتصنيف، أن يخلص لله، ويحسن الظنَّ به، ويدعوه بأن يكون في تأليفه نفعٌ للمسلمين.
المقطع الثالث:
((وكتاب الله؛ لو نُزِعت منه لفظة، ثم أُدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لما وُجِد، ونحن تبين لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع؛ لقصورنا عن مرتبة العرب ـ يومئذ ـ في سلامة الذوق، وجودة القريحة، ومَيْزِ الكلام)).المحرر الوجيز الطبعة الثانية قطر (1: 45).
وهذه الفائدة قد ذكر قريبًا منها الخويِّي (1)، قال السيوطي في: ((وقد رأيت الخويِّي ذكر لوقوع المعرب في القرآن فائدة أخرى فقال: إن قيل إن استبرق ليس بعربي وغير العربي من الألفاظ دون الفصاحة والبلاغة فنقول: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذه اللفظة ويأتوا بلفظ يقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك)) الإتقان، طبعة مجمع الملك فهد (3: 938).
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الخويِّي: أحمد بن الخليل بن سعادة (ت: 637) له كتاب: تتمة التفسير الكبير للرازي. نقلاً عن تحقيق الإتقان في علوم القرآن طبعة مجمع الملك فهد (ح5/ 1: 39).
ـ[محمد بن جماعة]ــــــــ[11 Jan 2008, 11:50 م]ـ
جزاك الله خيرا، وبانتظار مزيد من الفوائد.
ـ[فهد الوهبي]ــــــــ[12 Jan 2008, 08:47 ص]ـ
جزاك الله خيراً يا دكتور مساعد على هذه الوقفات الجميلة، ورحم الله الإمام ابن عطية ...
ـ[النجدية]ــــــــ[12 Jan 2008, 09:40 ص]ـ
بسم الله ...
جزاكم الله خيرا، و إن هناك عبر و فوائد ... تحتاج إلى وقفات في تفاسير السلف -رضي الله عنهم- كتفسير الطبري، و أبي حيان و غيرهم ...
جعلكم الله سبّاقين إلى الخير دوما!!
ـ[عمر المقبل]ــــــــ[21 Jan 2008, 10:20 م]ـ
بورك فيكم أبا عبدالملك ..
ومن الأمثلة التي تضاف إلى الفقرة رقم (4) المتعلقة بالرمزية في التفسير،ما ذكره في تفسير سورة التكوير، حيث قال رحمه الله ـ بعد أن بين المراد بتكوير الشمس،وانكدار النجوم ... الخ تلك الآيات التي صدرت بها السورة ـ:
(وذهب قوم من الملحدين إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند موته، والشمس نفسه والنجوم عيناه وحواسه، والعشار ساقاه، وهذا قول سوء وخيم غث ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى).
والظاهر من كثرة تنبيهه رحمه الله على هذه المسألة أن هذا النوع من التفسير المغرق في الرمزية قد انتشر في وقته،أو قبل وقته،وصار له رواج، وربما كان هذا أثرا من آثار انتشار أفكار إلحادية في بلاد الأندلس بالذات.
والسؤال: هل هذا النوع من التنبيهات موجود في غيره من تفاسير الأندلسيين؟!.
¥