تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويبدو أن كاتب المقالات الثلاث ليس لديه دراية كافية في القضية التي يتكلم فيها من حيث التاريخ والمنهج، وذلك لاعتماده على مرجع واحد في ما سماه "نشأة الإعجاز العلمي"، وكذلك عدم تفريقه بين مسألتين أساسيتين: أحدهما: التفسير العلمي، والثانية: الإعجاز العلمي، وإن كان كلاهما شيئاً واحداً عنده؛ فهذه قضية أخرى، ومع ذلك سأناقش فكرته على العموم من حيث أصلها؛ وهو استنباط المعارف من القرآن الكريم، وتسخير العلوم الكونية والمعارف البشرية في بيان القرآن الكريم، ولن أناقش هذين المصطلحين والفرق بينهما فهذا شأن يطول ويحتاج مبحثاً لوحده؛ هذا مع العلم أن مصطلح "الإعجاز العلمي" مصطلح جديد لم يقصده الغزالي عندما كتب جواهر القرآن، ولكن أشار إليه السيوطي في كتابه معترك الأقران إذ جعل من وجوه إعجاز القرآن اشتماله على العلوم المختلفة المستنبطة منه، واستدل على ذلك بنحو عمله في الإتقان (2).

وقد قسمت البحث إلى مطالب أربعة:

المطلب الأول: استنباط العلوم في عهد النبي ? والسلف الصالح.

المطلب الثاني: أصل مشروعية الاستفادة من علوم غير المسلمين في بيان أمور الدين.

المطلب الثالث: توسع استنباط المعارف وتسخير العلوم في تفسير كتاب الله.

المطلب الرابع: ملامح الانحراف في اتجاه التفسير العلمي والإعجاز العلمي.

هذا وأسأل الله أن يجعل هذا البحث نافعاً، ويضع الباحث في هذه القضية في الجادة التي ترشده للوصول إلى ما يرضي الله، فما كان من صواب فذلك توفيق من الله، وما كان من زلل فخطأ اجتهاد مني أسأل الله الأجر عليه والحمد لله رب العالمين.

المطلب الأول: استنباط العلوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح:

لقد كان أثر القرآن في تصحيح مفاهيم الناس عند نزوله أثراً عظيماً، فقد محا الخرافات المتداولة بين الناس حول الشمس والقمر، وحول نزول المطر، وخلق الإنسان وغير ذلك، كما صحح مفاهيمهم اتجاه القضايا الكونية التي انطبعت في أذهان الجاهلية بالخرافات كالطيرة وغير ذلك، وكان ارتباط تصحيح هذه المفاهيم بالعقيدة ارتباطاً وثيقاً، كما أن منهج الآيات القرآنية في المرحلة المكية كان منهجاً يفتق العقل ويعصف به؛ ليستيقظ من غفوة الجهل ويدرك عظمة الخالق؛ ويتفكر بالآيات القرآنية الدالة على الآيات الكونية، وكان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم بيان معارف القرآن الكريم، مثال ذلك ما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ?ِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ? [الانفطار:8] قال: (لكن في الصحيحين عن أبي هُرَيرة أن رَجُلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي وَلَدت غُلامًا أسودَ؟. قال: "هل لك من إبل؟ ". قال: نعم. قال: "فما ألوانها؟ " قال: حُمر. قال: "فهل فيها من أورَق؟ " قال: نعم. قال: "فأنى أتاها ذلك؟ " قال: عسى أن يكون نزعة عِرْق. قال: "وهذا عسى أن يكون نزعة عرق") (3)، وأراد ابن كثير بذلك أن يجعل الحديث بياناً للآية، وبيان ذلك: أن الله تبارك وتعالى يخلق الإنسان ويخلق صفاته وهيأته على شبه أحد أجداده وليس على شبه أحد أبويه، ومرد ذلك لإرادة الله تعالى يجعل المولود في أي صورة من صور أجداده يركبه بها، لأنه تعالى هيأ النطفة حاملة جينات الأجداد الوراثية.

ولم يكن الصحابة يقفون في فهم القرآن على العبادات والتوحيد فقط -كما ذكر صاحب المقالات الثلاث -، وإنما كان استنباطهم وفهمهم أوسع من ذلك بكثير، فقد أدرك سلفنا الصالح أن القرآن جامع للعلوم، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن .. ) (4).

ويقول مسروق رحمه الله: (من سره أن يعلم علم الأولين والآخرين وعلم الدنيا والآخرة فليقرأ سورة الواقعة) (5)، وكانت معرفتهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسليقتهم العربية ومعاينتهم التنزيل مستنداً في فهم معاني كتاب الله تعالى واستنباط العلوم، ومن ذلك يقول "ابن عباس في قوله: ?مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ? (يعني: ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولون إلى لون). وهكذا قال عكرمة، ومجاهد، والحسن، والربيع بن أنس: الأمشاج: هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة" (6). وكتب التفسير بالمأثور غنية بالأدلة على ذلك، وما علينا إلا أن نتعب أنفسنا في استخراجها قبل رمي الناس بأحكام جائرة جزافاً دون

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير