تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تحقيق.

المطلب الثاني: أصل مشروعية الاستفادة من علوم غير المسلمين في بيان أمور الدين:

لقد وردت الإشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم في أصل مشروعية الاستفادة من علوم غير المسلمين للاستفادة منها في بيان ما نحتاج من أمور الدين؛ وكان فهم سلفنا الصالح لهذه الإشارة من أسباب الانفتاح على العلوم عند الفتوحات الإسلامية، ففي الحديث الذي أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? فِي أُنَاسٍ وَهُوَ يَقُولُ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْ الْغِيلَةِ فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ) (7).

وفي حديث آخر عن أسامة بن زيد أن رجلا جاء إلى النبي ? فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله ?: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أشفق على ولدها، فقال رسول الله ?: لو كان ذلك ضارا ضر فارس والروم - وفي لفظ: إن كان لذلك فلا، ما ضار ذلك فارس ولا الروم) (8).

يقول النووي: (قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَب هَمّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا أَنَّهُ يَخَاف مِنْهُ ضَرَر الْوَلَد الرَّضِيع، قَالُوا: وَالْأَطِبَّاء يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ اللَّبَن دَاء وَالْعَرَب تَكْرَههُ وَتَتَّقِيه) (9).

ومن المعلوم أن الروم وفارس كانتا أعلم بكثير من العرب في أمور الطب، ولذلك يقول المناوي في فيض القدير: (يعني لو كان الجماع أو الإرضاع حال الحمل مضرا لضر أولاد الروم وفارس، لأنهم يفعلونه مع كثرة الأطباء فيهم فلو كان مضرا لمنعوه منه فحينئذ لا أنهى عنه) (10)، فاحتج النبي صلى الله عليه وسلم على عدم الضرر بعمل الروم وفارس لكونهم أعلم بالأمور الطبية، وفي ذلك إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى جواز الاستدلال بعلوم غير المسلمين، والاستفادة من علومهم في تقرير الأحكام الشرعية، التي هي توقيع عن رب العالمين، وكذلك التفسير هو الرواية عن الله تعالى كما يقول مسروق: (اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله).

والتفسير في ضوء المعارف العلمية والحقائق الكونية إنما هو بيان لكلام الله بأفعال الله تعالى إذ هي من خلقه سبحانه، مع ضبط هذا البيان بضوابط التفسير المقررة، واستناداً إلى هذا الأصل بنى الغزالي دعواه إلى استنباط المعارف من القرآن الكريم، ثم عرض الغزالي مثلاً لما ذهب إليه بقوله تعالى: ?وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ? [الشعراء:80]، فقال: (وهذا الفعل لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله، إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته ومعرفة الشفاء وأسبابه .. ) (11).

أقول: وفي المثال الذي ذكره الغزالي إشارة إلى حاجة إظهار هذه العلوم لمختصين متأهلين للخوض في كتاب الله تعالى منضبطين بمقصد القرآن في الهداية والإرشاد، فإن معاني القرآن مكنونة في ألفاظه وتراكيبه، ولا يستطيع غوص غماره لاستكشاف عجائبه إلا من ألم بآلات العلوم وأصول الاستنباط.

المطلب الثالث: توسع استنباط المعارف وتسخير العلوم في تفسير كتاب الله:

"وبمجيء العصر العباسي واجهت حركة تفسير القرآن تيارات فكرية وتغييرات اجتماعية جديدة، دخلت على المجتمع المسلم نتيجة الاختلاط الحضاري بين الحضارة الإسلامية والحضارات السابقة، التي انتقلت فلسفاتها وعلومها إلى المجتمع الإسلامي، فحاول علماء الإسلام أن يستفيدوا منها لفهم القرآن الكريم وتوسيع معارفهم العقلية والفلسفية والعلمية حول كثير من المسائل التي وردت في آياته، فمن جهة حاولوا فهم كثير من أسرار الشريعة الإسلامية من خلال تطويرهم الكبير للعلوم الكونية والطبيعية، ومن جهة أخرى رأوا أن بناء العقائد الإسلامية التي وردت في القرآن الكريم على المرتكزات العقلية الفلسفية المنطقية غدا أمراً ضرورياً أمام المطاعن التي وجهت إلى الكتاب الكريم من قبل اللاهوتيين من أهل الأديان الأخرى ومنكري النبوات الذين شنوا هجوماً فكرياً مركزاً على أصول تلك العقائد، فانبرى علماء الكلام يفندون آراءهم ويردون اعتراضاتهم ويثبتون إعجاز القرآن العقلي والمنطقي" (12).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير