تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه، وقوله {وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله} للمفسرين في الوقوف على {الله} من قوله {وما يعلم تأويله إلا الله} قولان، جمهورهم يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها {والراسخون في العلم} وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على {إلا الله} لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا يعلمها إلا الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله {الرحمن على العرش [استوى]} (1) فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك، تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا يعلمها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان الصواب عطف {الراسخون} على {الله} فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون {كل} من المحكم والمتشابه {من عند ربنا} وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض (2) وفيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال {وما يذكر} أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا {أولوا الألباب} أي: أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة." أهـ

وقلت:

"ولقائل أن يقول إن هذا الحكم غير صالح للتعميم على سائر الأدلة؛ إذ يستثنى منها قوله تعالى: ?ثم إن علينا بيانه? (القيامة: 19)، والذي يظهر من خلاله، أن الله عز وجل لم يحدد المصدر التفسيري فحسب، وإنما حدد الجهة المفسرة أيضاً بأن أوكل إلى نفسه مهمة البيان. غير أن هذا الاعتراض لا يلبث أن يتلاشى، عند استحضار السياق النصي والتاريخي الذي وردت فيه هذه الآية. وممن اعتمد السياقين لاستخراج الدلالة عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فعن موسى بن أبي عائشة عن سعيد ابن جبير عن عبد الله بن عباس في قوله: ?لا تحرك به لسانك لتعجل به? (القيامة: 16) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه، فأنزل الله الآية التي في ?لا أقسم بيوم القيامة? (القيامة: 1): ?لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه? (القيامة:17) قال: علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه، ?فإذا قرأناه فاتبع قرآنه? (القيامة:18) فإذا أنزلناه فاستمع، ?ثم إن علينا بيانه? (القيامة:19) علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله." ومنه يتضح أن الآيات تدل على مصاحبة العناية الإلهية للرسول صلى الله عليه وسلم في سائر مراحل تلقي القرآن الكريم وأدائه، من التنزيل إلى الجمع في الصدر، فالتلفظ والتبليغ، لتطمئنه بذلك، فلا يحتاج بعدُ إلى تحريك لسانه، استعجالا لتبليغه مخافة نسيانه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير