قال ابن عطية: ((واختلفت عبارة المفسرين في تعيين المحكم والمتشابه المراد بهذه الآية، فقال ابن عباس المحكمات هي قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) (الأنعام: 151) إلى ثلاثة آيات، وقوله في بني إسرائيل: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (الإسراء: 23) وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات.
وقال ابن عباس أيضاً: المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وما يؤمن به ويعمل، والمتشابه منسوخة ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به.
وقال ابن مسعود وغيره: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات.
قال الفقيه الإمام: وهذا عندي على جهة التمثيل أي يوجد الإحكام في هذا والتشابه في هذا، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات، وقال بهذا القول قتادة والربيع والضحاك، وقال مجاهد وعكرمة: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو متشابه يصدق بعضه بعضاً، وذلك مثل قوله: (وما يضل به إلا الفاسقين) (البقرة: 26) وقوله: (كذلك يجعل الله الرجس على الذني لا يؤمنون) (الأنعام: 125).
قال الفقيه أبو محمد: وهذه الأقوال وما ضارعها يضعفها أن أهل الزيغ لا تعلق لهم بنوع مما ذكر دون سواه.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التي فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، والمشتابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية.
وقال ابن زيد: المحكم ما أحكم فيه قصص الأنبياء والأمم وبين لمحمد وأمته، والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور بعضها باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبعضه بعكس ذلك نحو قوله: (حية تسعى) (طه: 20) و (ثعبان مبين) (الأعراف: 107) ونحو: اسلك يدك، وأدخل يدك.
وقالت جماعة من العلماء منهم جابر بن عبد الله بن رئاب وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري، وغيرهما: المحكمات من آي القرآن ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
قال القاضي رحمه الله: أما الغيوب التي تأتي فهي من المحكمات، لأن ما يعلم البشر منها محدود وما لا يعلمونه وهو تحديد الوقت محدود أيضاً، وأما أوائل السور فمن المتشابه لأنها معرضة للتأويلات ولذلك اتبعته اليهود وأرادوا أن يفهموا منه مدة أمة محمد عليه السلام، وفي بعض هذه العبارات التي ذكرنا للعلماء اعتراضات، وذلك أن التشابه الذي في هذه الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ به تعلق، وفي بعض عبارات المفسرين تشابه لا يقتضي لأهل الزيغ تعلقاً)).
تأمَّل ـ رحمني الله وإياك ـ كيف وقف ابن عطية من تفسيرين متغايرين وردا عن ابن عباس، فجعل الأمر منه على سبيل المثال للمحكم والمتشابه، ولو نظر بعض من ضعُف فهمه في طريقة السلف في تعبيرهم لأوصل الأمر إلى الحكم بالتناقض في أقوال ابن عباس، وتلك ـ والله ـ بسبب جهلنا بطريقتهم في التفسير، ولاشكَّ أن ذلك نقص في الأداة التفسيرية عندنا، لكن من كمُلت عنده ـ كابن عطية ـ لم تشكل عليه مثل هذه الاختلافات، بل حكم بها على أنها من قبيل التمثيل لما هو محكم وما هو متشابه، لكنه لم يفته ـ رحمه الله تعالى ـ أن يعطيك ضابطًا فيما يدخل في مراد الآية، فتراه ينبهك على أن بعض الأقوال لا يدخل في مراد الآية؛ لأن (في بعض هذه العبارات التي ذكرنا للعلماء اعتراضات، وذلك أن التشابه الذي في هذه الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ به تعلق، وفي بعض عبارات المفسرين تشابه لا يقتضي لأهل الزيغ تعلقاً).
وإلى مقال آخر إن شاء الله تعالى.
ـ[أبو العالية]ــــــــ[17 Jan 2008, 03:07 م]ـ
الحمد لله، وبعد ..
جزاكم الله خيراً ونفع بكم.
دررٌ، وصيدٌ ثمين، فلا حرمنا خيركم وفضلكم أيها الشيخ المفيد.
وفي انتظار فضل علمكم.
ـ[عبدالعزيز الداخل]ــــــــ[18 Jan 2008, 02:18 ص]ـ
جزاكم الله خيراً وأحسن إليكم
وأسأل الله تعالى أن يعينكم على الإتمام وأن ينفع به ويبارك فيه
فهو عمل مهم جداً يدرك فوائده من عانى البحث في التفسير بالجمع والتحرير
وقيامكم به يُضفي عليه أهمية خاصة لما عُرف عنكم من حسن النظر وجودة التحرير
ورحم الله ابن عطية رحمة واسعة ورفع درجته
فهو من الأئمة المفسرين المقتدى بهم، وجمع هذه الدرر من أقواله وتسليط الضوء عليها بالشرح والبيان والتحرير من أنفع الأشياء لطالب علم التفسير ذلك أنها تعطيه دروساً تطبيقية في علم التفسير يستقيها من مدرسة إمام مفسِّر مشهود له بالتقدم والإمامة في هذا الشأن، يهتدي بها إلى النظر بعمق في أقوال المفسرين، نظراً يدرك به مآخذ الأقوال، ومَنَازِعَ الاعتراضات عليها، وطرق الجمع والترجيح وتنزيل الأقوال منازلها اللائقة بها، مما يفتح للطالب مشرَع الفهم الصحيح لكتاب الله عز وجل.
نفع الله بكم وبارك في جهودكم ورفع منزلتكم.
¥